الطريق إلى الأمام؟

هل بإمكان الأردن الاستفادة من تجربة د. مهاتير محمد، رئيس وزراء ماليزيا الأسبق الإشكالي، مؤسس الدولة الحديثة في بلاده التي نقلها من التخلف والفقر إلى أنموذج للنهضة الاقتصادية والمعرفية خلال وجوده على رأس الهرم، مدعوما بثقل الحزب الحاكم؟
لم لا؟ فثمّة قواسم مشتركة عديدة بين البلدين المسلمين. ويمكن استنساخ ما يصلح للأردن، بشرط توافر الإرادة السياسية، وترويض الجهاز البيروقراطي المتجذر الخاضع لهيمنة قوى محافظة تفضّل إدامة الوضع الراهن. وكذلك تحييد جماعات دينية تُسقط مواقفها الشخصية والفكرية على الغالبية الصامتة، من خلال التعليم والثقافة.
د. مهاتير نقل ماليزيا من دولة فقيرة زراعية، بأعراقها ودياناتها المتعددة، إلى دولة مستقلة بقرارها الداخلي والخارجي، غنية بمواردها، ومحجا للاستثمار؛ مسجلا قصة نجاح اقتصادي وصناعي. خلال عهده بين العامين 1981 و2003، نجح في توحيد صفوف مروحة من الأديان والأعراق واللغات؛ إسلام، وهندوسية، وبوذية، ومسيحية، بعد نيل الاستقلال عن بريطانيا العام 1957. فارتفع متوسط دخل المواطن إلى 12 ألف دولار أميركي في أقل من 15 عاما، وباتت ماليزيا تصدّر ما كانت تستورده، في إطار خطّة تنمية طموحة (1991-2020)، صعدت بالبلاد إلى مصاف القوى الاقتصادية والصناعية الكبرى في آسيا. وأدت رؤيته إلى انفراد ماليزيا بكونها أول بلد إسلامي -من بين 57 بلدا- يدخل عصر الصناعة.
كيف تحرك د. مهاتير -الذي اعتمد في جوانب عديدة على إسكات المعارضة، وعلى قوة حزبه الذي ما يزال يحقق الغالبية في الانتخابات- للبقاء في منصبه أطول فترة، بما ساعده على استكمال برامجه وتصويب الأخطاء؟
لقد اعتمد على ثلاث روافع، حسبما شرح خلال لقاء تفاعلي خاص، بمشاركة وجوه سياسية واقتصادية وإعلامية، وبعدها في محاضرة عامة يوم الخميس الماضي نظمتها مؤسسة عبدالحميد شومان، بحضور الأمير الحسن بن طلال، بعنوان "نهضة أمة... التجربة الماليزية: دروس مستفادة".
الرافعة أو الخطوة الأولى، إقراره بأن "ماليزيا دولة للجميع؛ كل مواطن شريك فيها وعليه التشارك في عجن وخبز وأكل الكعكة الوطنية"، بمكوناتها السياسية والثقافية والاجتماعية والدينية والاقتصادية والتعليمية. "علينا العمل معا لبنائها، وعلينا تحمل بعضنا بعضا وتقبل اختلافاتنا العرقية والطائفية والثقافية واللغوية، لأن تعدديتنا مصدر قوتنا"، حسبما قال. الاستقرار السياسي الداخلي ضرورة للتركيز على بناء الدولة، وذلك يتأتّى من عقلية تشاركية، وليس من خلال سيطرة أقليّة على الغالبية. الجميع يتقبل بأن ماليزيا دولة دينها الرسمي الإسلام، لكن فيها جوامع وكنائس ومعابد. "وكحاكم لا تستطيع التعسف في استخدام السلطة أو الاستئثار بمقدرات الدولة الاقتصادية وغيرها لخدمة الذات".
والرافعة الثانية، الاعتماد على القطاع الخاص كمحرك نمو، مع التركيز على صناعات توفر فرص عمل مكثّفة، وبناء نظام إعفاءات ضريبية لحفز المستثمرين الأجانب على نقل الخبرة للماليزيين، وتهيئة بنية تحتية وخدمية مع خصخصة الشركات العامة. وكان من الضروري ضمان تآلف القطاعين الخاص والعام، مع شحذ همم القطاع الخاص لكي يكثّف أنشطته ويحقق إيرادات تغذّي ضرائب لتمويل خزينة الدولة. ويستذكر د. مهاتير: "قلت لموظفي القطاع العام: المال الذي ندفعه لكم يأتي من القطاع الخاص". واليوم، يشكل الأجانب، وغالبيتهم من المستثمرين، سبعة ملايين شخص من بين 30 مليون نسمة في ماليزيا.
أما الرافعه الثالثة، فتثوير التعليم بحيث يقوم على المعرفة والإبداع، بدلا من التلقين؛ والتركيز على الفقه كأساس للمعرفة. وقد طالب بأن تركز المناهج على الرياضيات والعلوم باللغة الإنجليزية، لكي يتعلم الماليزيون لغة "المعرفة العلمية". وشدّد على أن لا تعارض بين الإسلام والنهضة والتقدم، مستذكرا أن "الإسلام بدأ بكلمة اقرأ". وهو يرى أن المسلمين لن يحموا بعضهم بعضا ويذودوا عن ديارهم بـ"الرمح والحصان"، بل من خلال "تعلم كيفية صنع الدبابات والطائرات ووسائل الحرب التي يحتاجونها. وهذا يتأتّى من خلال إكسابهم العلوم الحديثة والرياضيات".
كسب رئيس الوزراء الأسبق قلوب العديدين، وطالته انتقادات لاذعة، لأنه ركز على مفهوم ليبرالي للإسلام. كما ركزت خططه على تقليص الفجوة بين الأغنياء والفقراء، بخاصة أن الصينيين والهنود (ثلث السكان) كانوا الشريحة الأكثر مالا ونفوذا على حساب المالاي، الذين يصفهم د. محمد بالسكان الأصليين.
مارس التمييز الإيجابي لمصلحة السكان الأصليين لتحقيق العدالة والمساواة والمشاركة بين السكان على أساس متكافئ، وليس من خلال تقوية عرق على آخر؛ "الفجوة بين الأغنياء والفقراء مصدر للتصادم المستمر داخل المجتمع، وعلينا جعل الماليزيين أغنياء كالصينيين والهنود"، حسبما أضاف.
وفر منحا تعليمية للماليزيين (الفقراء والمهمشين)، وابتعث طلبة للخارج باعتبار ذلك "انحيازا إيجابيا ومطلوبا" لإغلاق الفجوة المعرفية والعلمية؛ مفتاح تحقيق الازدهار والتقدم الشخصي. وقد ساعد ذلك لاحقا على توسيع قاعدة الطبقة الوسطى وتقليص نسب الفقر من 60 % في بداية عهده، إلى أقل من 9 % اليوم. كما وزّع الأراضي الزراعية من خلال هيئات وجمعيات لتنمية الأراضي وأتمتة زراعتها، بعد أن كانت مملوكة للإقطاعيين.
ويؤكد د. مهاتير أن الاستقرار السياسي يتحقق عبر حل مشكلة البطالة وتحقيق التنمية الاقتصادية. لذلك، طالت سهام الانتقادات الغربية سياساته المتعلقة بحرية الإعلام والإصلاح السياسي. كما انتقدته الطبقة الليبرالية واليسار، وتلك التي تؤمن بأن الإصلاح السياسي والاقتصادي يجب أن يسيران جنبا إلى جنب.
بعد استعراض محاور عمل د. مهاتير، وأسلوبه في بناء نهضة بلاده، ندرك أن على المسؤول كما المواطنين، الكثير لفعله صوب النهضة. فماليزيا ليست معجزة أو أفضل حالا.
ويظل الأمل في أن ننجح في بناء دولة القانون القائمة على أسس المواطنة والمساواة الكاملة، وإحداث ثورة بيضاء في نظامنا التعليمي القائم على التلقين وقتل الإبداع ومهارات الحياة. فلا بد من التركيز على جوانب العلوم والرياضيات، وعلى استعادة تأثير الفلسفة والفن والإبداع والتفكير النقدي والمحاججة المنطقية في مناهجنا التي تعرضت لاختطاف خلال العقدين الماضيين. كما ساهمت في بروز أجيال منغلقة على ذاتها ومجتمعها.
علينا التعامل بعقلية الشركاء: حكومة، قضاء، برلمانا، إعلاما، ومجتمعا مدنيا.
القطاع الخاص ليس عدوا للقطاع العام، بل الاثنان يكملان بعضهما بعضا. على من يدير القطاع الخاص التخلص من عقلية الربح السريع و"الكوميسيون"، وعلى القطاع العام التخلص من العقلية العرفية وأسس الجباية. كما على القضاء مواصلة الإصلاح، لأن المستثمر لن يأتي لسواد عيون الأردنيين، ويريد ضمان سرعة البت في القضايا العمالية والحقوقية التي قد تأخذ سنوات.
على مجلس الأمة مسؤولية تطوير الحياة السياسية من خلال قانون الانتخاب الجديد (والذي ربما يكون أفضل قانون انتخاب في تاريخ الأردن الحديث لتأمين الاستقرار السياسي بدل الاعتماد على المنظور الأمني). فهذا القانون سيوفر فرصة للجميع للمشاركة في العملية السياسية وتشكيل مجلس يمثل مصالح الشعب، وقاعدة مستمرة للبناء والتطوير. لا بد من استكمال السير بثبات على طريق الإصلاحات في كل شؤون الحياة. وإذا نجحت الحكومة في تطبيق قانون اللامركزية مع قانون الانتخاب الجديد وقانون البلديات لثماني سنوات قادمة، بالتزامن مع عمل جدي لتطوير الأحزاب واستكمال تحديث القضاء وتطبيق مفهوم إعلام الخدمة العامة وثورة التعليم، مع تحسين البيئة الاستثمارية، فسيكون الأردن قد سار على سكة إصلاح تدريجي آمن.
إذا نجحت ماليزيا، فإنه يمكننا أن ننجح. المهم أن نركز على الاستفادة من تجربة الإصلاح التعليمي والاقتصادي. إذ إن سجل د. مهاتير في الإصلاح السياسي إشكالي إلى حد كبير، لأنه أسكت الأصوات المعارضة وحبسها، وأغلق صحفا وضغط على القضاء. كما أن موقفه المضاد للغرب سياسيا واقتصاديا، وضعه في موقف صعب.
فهو من أنصار الإصلاح الاقتصادي قبل السياسي. وبالنسبة له، كانت الديمقراطية دائما مصطلحا له حدود حال حقوق الإنسان والحريات الشخصية. لكنه كان بالتأكيد الصوت الأكثر وضوحا في تحديث العالم الثالث.
الحرب والخراب من حولنا قد يوفران فرصة جديدة لكي نشق طريقا خاصة بنا، عمادها الاستقرار الاقتصادي والسياسي كرافعتين متلازمتين.