الإصلاح ومقاومة العدمية السياسية

الرد الذي أعلنته بعض الأحزاب والقوى السياسية (بيان العشرين)، وعلى رأسها حزب جبهة العمل الإسلامي، على مشروع قانون الانتخاب، لا يمكن وصفه إلا بأنه عدمية سياسية. فقد اغتالت حكومات سابقة إرادة المجتمع الأردني لإحداث إصلاح سياسي متدرج، حينما عطلت تلك الإرادة في أكثر من لحظة تاريخية حاسمة. كما قامت الحكومة الحالية بتجميد هذه الإرادة على مدى ثلاث سنوات، من دون مبررات حقيقية. لكن حينما تأتي هذه اللحظة، فإن أبجديات العمل السياسي ومنطقه يتطلبان استثمارها (هذه اللحظة) والتمسك بها، لا تعطيلها ورفضها جملة وتفصيلا، كما يفعل بعض تلك القوى السياسية.
هناك بعض الملاحظات والتحفظات على مشروع القانون المطروح، لكنها لا تصل إلى درجة رفضه. فهو، من دون شك، يشكل قاعدة صلبة لحوار وطني جاد، ويضع البلاد على مسار إصلاح سياسي حقيقي. فقد حقق مشروع القانون ثلاثة مطالب إصلاحية أساسية، عمرها عقود، هي: أولا، التخلص من الصوت الواحد. وهو مطلب تاريخي طالبت به منذ أكثر من ربع قرن القوى الإصلاحية كافة. وثانيا، الانتقال إلى نظام انتخابي مرن، يعكس حاجات التطور السياسي والاجتماعي للمجتمع الأردني، ويخدم بطرق متعددة الحياة الحزبية. وبعكس ما تحاول بعض القوى السياسية إشاعته، فإن الحياة الحزبية لا يمكن أن تزدهر من دون روافع اجتماعية حقيقية. فمشروع القانون لا يعيد إنتاج العشائرية السياسية، لكنه لا يتجاوزها؛ باعتبارها حقيقة اجتماعية وسياسية. وهذه خطوة إصلاحية مهمة. وثالثا، التحول إلى مفهوم القوائم النسبية المفتوحة.
كيف يؤسس هذا التحول لبناء حياة سياسية تذهب نحو التعافي من علل وأمراض مزمنة، إذا ما ارتبط ذلك بحزمة من الإصلاحات السياسية والاجتماعية، وتحسين بيئة عمل المؤسسات ذات الصلة بالحياة العامة؟
لا يمكن معرفة حجم المكتسبات السياسية والعامة التي يحققها التخلص من كابوس قانون "الصوت الواحد"، إلا في ضوء فهم التحول القادم في سياق عملية إصلاحية مدخلها الحقيقي هذا التطور المهم؛ وفي ضوء الوعي بحجم الخسائر والثمن اللذين دفعهما كل من المجتمع والدولة، على حد سواء، جراء تعسف هذا القانون، وما أنتجه من انحرافات نالت المجتمع والقيم والبنى السياسية، فيما كانت الدولة هي الحلقة الأضعف التي دفعت الأثمان السياسية والاقتصادية والاجتماعية، حينما أدخل هذا القانون البلاد في حالة من فقدان الوزن والأمراض المزمنة.
قانون "الصوت الواحد" فشل في إنضاج الحياة السياسية، بما أصاب الدولة في جوهر قوتها؛ أي الإضرار العميق بالكفاءة العامة للدولة. فقد تعايش الأردنيون مع ستة مجالس نيابية أفرزها هذا القانون/ النظام الانتخابي، كل واحد منها أضعف من الآخر، ما انعكس على ثلاثة أجيال من الحكومات الأردنية التي وجدت نفسها من دون حصانة تمثلها مؤسسات برلمانية وتمثيلية قادرة على حماية الولاية العامة، حتى كدنا نطرح أسئلة توصف بالكفر في ذلك الوقت، من قبيل: كيف تسن القوانين وتدار شؤون العامة؟ فقد أضعفت المؤسسات التمثيلية المتهالكة الحكومات ذاتها، وأفقدت السلطات وزنها ولونها.
فشل قانون "الصوت الواحد" في بناء مؤسسة برلمانية معافاة، تقوم بالحد الأدنى من وظيفتها الرقابية. ولا شك في أن قانونا انتخابيا إصلاحيا سيكون مقدمة لإعادة إنتاج طبقة سياسية أكثر كفاءة، تبدأ من البرلمان.
الرد الذي أعلنته مجموعة من الأحزاب يوم الأربعاء الماضي، ودعت من خلاله إلى رفض مشروع القانون الجديد، يعد عدمية سياسية لا أكثر. وهو في الواقع رفض لمبدأ التراكمية في العمل السياسي والاجتماعي، وبما يعد أبرز خطايا العرب المعاصرين. وكما أضيعت اللحظة التوافقية الوطنية حول مخرجات لجنة الحوار الوطني، تحاول بعض هذه القوى إعادة الكرّة مرة أخرى.
مشروع قانون الانتخاب الجديد يأتي ضمن حزمة إصلاحية مهمة، تتمثل في قانوني اللامركزية والبلديات، وقبلهما قانون الأحزاب. وهذا هجوم إصلاحي تمارسه الحكومة، يجب أن يؤخذ بجدية وتقدير، وأن تدار حوله نقاشات جادة؛ فالعدمية لا تبني الأوطان.
إن القوى الإصلاحية التي قاومت قانون "الصوت الواحد" على مدى ربع قرن، هي اليوم أمام مسؤولية جدية، لا تقل أهمية عن السابقة، وتتمثل في مقاومة هذه العدمية السياسية.