"إحنا غير"

استنهضت حوادث القتل الناجمة عن إطلاق العيارات النارية في المناسبات الاجتماعية، همم الأوساط المناهضة للظاهرة. البداية كانت عبر مواقع التواصل الاجتماعي، حيث بادر ناشطون إلى إطلاق الدعوات للجم الظاهرة، وكسب التأييد لتجريمها. وفي الأثناء، أعلنت الجهات الأمنية عن سلسلة من الإجراءات المشددة لضبط مطلقي العيارات النارية وإيداعهم السجن. وقررت الحكومة من طرفها تعديل التشريعات لتغليظ العقوبات.
الحراك المناوئ للظاهرة انتقل من العالم الافتراضي إلى الواقع. وشرعت منظمات مجتمع مدني بجمع تواقيع المواطنين، في عديد المدن، على وثائق يتعهد الموقعون عليها بعدم إطلاق العيارات النارية في الأعراس والحفلات، والالتزام بمغادرة المناسبة التي تطلق فيها العيارات النارية، احتجاجا واستنكارا لهذا السلوك.
الفيديو الذي انتشر مؤخرا لطفل يسقط ضحية لرصاصة في أحد الأعراس، أدمى قلوب مشاهديه، فكانت ردة الفعل الساخطة على الظاهرة. لكن، وكما الحال في كل الصور المؤلمة، فإن مشاعر الصدمة التي تتملك الإنسان سرعان ما تخبو مع مرور الوقت، ولا يعود يتذكرها.
لقد وقعت حوادث مأساوية مشابهة في السنوات السابقة، استنفرت قوى اجتماعية وأوساطا رسمية وإعلامية. لكن ظاهرة إطلاق العيارات النارية استمرت، وبوتيرة أعلى.
أخشى أن ما نشهده حاليا من ردات فعل، لا يعدو أن يكون مجرد "فزعة" ينتهي أثرها مع انقضاء موسم الأفراح؛ وبعد بيات شتوي لعدة أشهر، نعود لصهللة البنادق في أعراسنا وأفراحنا في أول صيف.
خلال العقدين الأخيرين من عملي في الصحافة، واكبت نقاشا موسميا لا ينقطع حول الظاهرة، وشهدت التوقيع على مئات العرائض والمواثيق، لا بل والمؤتمرات والندوات المخصصة لمناقشة "سبل الحد من ظاهرة إطلاق العيارات النارية في الأفراح"، ومثلها للحد من الإسراف في المناسبات والجاهات.
ماذا كانت النتيجة؟
الظاهرة في تفاقم. وبدل المسدس الواحد، صار الواحد منا يحمل مسدسين. وفي وقت لاحق ظهرت البنادق الآلية والرشاشات في كل مكان. وانتقلت الظاهرة من المدن البعيدة والأرياف، إلى قلب عمان الغربية؛ ففي أحياء راقية مثل دابوق وعبدون، "يلعلع" الرصاص كل ليلة خميس.
تطبيق القانون بحزم هو المدخل الرئيس للحد من الظاهرة المخجلة؟
صحيح. لكن من المستحيل على أجهزة الأمن، مهما بلغت من الكفاءة والشدة، تخصيص رجل أمن لكل عرس وحفلة تخريج؛ توجيهي وجامعات.
حمل الأسلحة، وإطلاق العيارات النارية في الأفراح، جزء من ثقافة اجتماعية تضرب جذورها عميقا في مجتمعاتنا. ثقافة ما قبل الدولة، وفي أحسن الأحوال ثقافة دولة القبيلة والعشيرة.
بعد قرابة قرن من الزمان، لم نغادر بعد تلك العقلية والثقافة. لا تغرنكم البدلات وربطات العنق الفاخرة، والسيارات الحديثة؛ ففي داخلها هراوات ومسدسات، وفي عقول أصحابها خيال خصب عن ماض تليد.
وفي الموروث الشعبي الحاضر دوما بالأغاني والرقصات، تمجيد وثناء على "البارود" وحامله، وإطلاق العيارات النارية في الأفراح يضفي على صاحبه مكانة وهيبة. ويعده البعض واجبا تجاه أهله وأبناء عمومته.
ومع تطور ثقافة السلاح في الأردن، وتنامي ظواهر البلطجة والعصابات المسلحة، صارت الأعراس والحفلات ميدانا لاستعراض القوة والنفوذ في الأحياء من قبل عصابات الزعران المتنافسة.
إنها ثقافة يلتقي حولها الأردنيون من شتى الأصول والمنابت. وإلى أن يأتي يوم يقر فيه هؤلاء أنهم مواطنون في دولة، وليس أفرادا في عشيرة، ستبقى مظاهر كهذه سائدة، وعصية.
صدق شباب مادبا عندما كتبوا شعارا لوثيقتهم الخاصة بمكافحة إطلاق العيارات النارية: "إحنا غير".