لننظم مهنتنا قبل أن ينظموها!

بانقضاء هذا العام، يكون قد تشكّل في الأردن مجلس شكاوى للإعلام، على غرار تجارب دول متقدمة وأخرى في "العالم الثالث"؛ بهدف معالجة تظلمات مواطنين من سهام التجريح واغتيال الشخصية، على أمل تعزيز صدقية الإعلام في ديمقراطية ناشئة.
مثل هذا المجلس -المنشود منذ سنوات- كان مطلبا أساسيا لتنظيم صناعة الإعلام، ومواجهة غياب المسؤولية والفوضى في محتوى صحف ومواقع إلكترونية ومحطات تلفزة وإذاعات. وهو قطب الرحى لتطبيق منهجية "التنظيم الذاتي" أو "التأديب الذاتي" طواعية في قطاع الإعلام، بالاستناد إلى مواثيق شرف وأخلاقيات المهنة المستنسخة من نماذج عالمية، والمفترض أن تشكّل مرجعيات للسلوكات الإعلامية الفضلى، بما يساعد على تنظيم علاقة الصحفي ومؤسسته بالجمهور والمجتمع.
د. محمد المومني، وزير الدولة لشؤون الإعلام، ورئيس اللجنة المكلفة بتنفيذ مضامين الاستراتيجية الإعلامية (2011-2015)، يتوقع أن يرى المجلس النور قبل نهاية العام. ومن بين أهدافه التدخل بحثا عن تسوية عادلة ترضي الطرفين (المشتكي والمشتكى عليه) خارج نطاق القضاء، ومن خلال التعامل بشفافية مع نتائج الشكوى.
لكن اللجنة لم تتوصل، حتى اللحظة، إلى توافق حول عضوية المجلس وتركيبته، ومرجعيته القانونية، ومظلته الإدارية؛ فضلا عن مدى إلزامية قراراته ومصادر تمويله. كما لم تحسم أيضا مسألة ميثاق الشرف والجهة التي ستضعه بتوافقية تلزم المؤسسات الإعلامية بتنفيذه، وبحيث يشكّل مرجعية واضحة لعمل المجلس.
لذا، التقى د. المومني، الأسبوع الماضي، مع ممثلي وسائط الإعلام العام والخاص، لتبادل وجهات النظر حول النقاط الرئيسة موضع الاختلاف. على أن تلك الحلقة النقاشية انتهت، للأسف، من دون إجابات واضحة. واكتفى الوزير بوعد المشاركين بأنه سيعمل بآرائهم بغية استكمال المشروع.
آراء الحضور تباينت أو تقاطعت. فالغالبية طالبت بأن لا يزيد عدد أعضاء المجلس عن سبعة أو تسعة أشخاص، وأن يمثل مهنيين مخضرمين مستقلين؛ من قطاع الإعلام والمجتمع المدني (الجمهور) ونقابة الصحفيين، وقضاة متقاعدين، مشهود لهم بنزاهتهم وإلمامهم بقضايا الإعلام، بما يجعل من المجلس قوة أخلاقية ومعنوية. كما طالبت الأغلبية بسن قانون مستقل للمجلس، يمنحه سلطات فعلية كممثل لكل الفاعلين، ويمنع تدخل السلطة في عمله قطعيا. وأمام تأكيد الوزير على سياسة الحكومة بعدم إنشاء مزيد من الهيئات المستقلة، اقترح البعض أن يعمل المجلس إداريا من داخل مبنى نقابة الصحفيين، لكن بمرجعية مستقلة، أو كجزء من المجلس الوطني لحقوق الإنسان، أو هيئة الشفافية والنزاهة، لكن بنظام مستقل.
وثار جدال حول إلزامية القرارات عبر تسويات ترضي الطرفين، أو وضع عقوبات مالية على وسائل الإعلام المخالفة، مع إمكانية الاحتفاظ بحق التقاضي لاحقا. والبعض طالب بشفافية التمويل القادم، ربما، من النقابة ووسائل إعلام عامة وخاصة، ومصادر أخرى.
معلوم أنه لا توجد هيكلية مثالية لمجالس الشكاوى، لأن ذلك يرتبط بصورة مباشرة بتقاليد المجتمع الديمقراطية، ومهنية قطاع الإعلام، وعدم تداخل السلطات.
في ظني أن الإشكالية الأولى تكمن في آلية تشكيل مجلس الإدارة. ففي غالبية دول العالم، تكون أكثرية أعضاء المجلس ممثلة للجسم الإعلامي؛ نقابة الصحفيين، اتحادات الناشرين والمحررين، ومالكي محطات التلفزة والإذاعة. 
لكن في الأردن لا يوجد إلا نقابة للصحفيين. وهناك ضعف في تقاليد التنظيم الذاتي ومفهومه. كما أن غالبية رؤساء التحرير والناشرين غير معنيين بهذا الملف. ناهيك عن الانقسامات السياسية التي تساهم في تشظي مجتمع الصحفيين إلى جماعات متنافرة، كل منها محسوب على مرجعية مختلفة. وفوق ذلك، هناك محدودية سوق الإعلام وتراجعه، مع إمكانية خضوع مؤسسات لأجندات الممول وتأثير تحالف النخب السياسية والاقتصادية مع قوى الشد العكسي المتجذرة في الجهاز البيروقراطي ومؤسسات الدولة، على استقلالية الإعلام.
لكن المجلس بات ضرورة وليس ترفا. ومن الضروري تشكيله من هيئات مستقلة عن السلطة السياسية، على أن تكون مهمته اتخاذ القرارات الخاصة بمعالجة الشكاوى ضد المؤسسات الإعلامية، أو المتعلقة بتجاوزات الصحفيين. وعليه التوفيق بين الصحفيين والمؤسسات الإعلامية من جهة، والجماهير من جهة أخرى؛ وقبول الشكاوى والتأكد من أنها تندرج في إطار ميثاق الشرف. باختصار، نتوقع من المجلس لعب دور الوسيط بين المشتكي والمؤسسة الإعلامية، واتخاذ قرارات بالاستناد إلى المبادئ التنظيمية والقانونية والأخلاقية. وكذلك رصد أي انتهاك لأخلاقيات الإعلام، والالتزام بالدفاع عن الصحفيين وحرية الصحافة.
من دون ذلك، لا توجد ضمانة لقيام قطاع إعلامي حر، مهني ومسؤول، يعكس حساسية عالية لاحتياجات الجمهور ويحاكي توقعاته، مع الالتزام بأعلى معايير المهنية القائمة على الدقة والموضوعية والحيدة، وتوثيق الحقائق لتوعية المواطن، ومساعدة المسؤول على تصويب الاعوجاج.
نريد مجلسا يحرس أطرا وضوابط يضعها الجسم الإعلامي طواعية -ما يجب وما لا يجب- في خدمة المنفعة العامة، بما تعنيه هذه الكلمة من حماية الديمقراطية والحاكمية الراشدة، وحرية التعبير وحقوق الإنسان. وكذلك إطلاع المواطنين على ممارسات الحكومة وممثلي الشعب، وكشف الجرائم، وإخفاق العدالة، أو أي ممارسات غير أخلاقية قد تهدّد المجتمع. 
ثمّة نماذج عديدة حول العالم. فأول مجلس للصحافة تأسس في السويد العام 1916، ومنها انتشر هذا المفهوم إلى سائر دول أوروبا وديمقراطيات العالم. 
وبحسب دراسة أعدّها رئيس هيئة الإعلام المرئي والمسموع د. أمجد القاضي، فإنه يوجد في السويد اليوم أمانة مظالم للصحافة العامة ومجلس آخر للصحافة السويدية. ولا يستند نظام التأديب الذاتي للصحافة السويدية على التشريعات، بل هو نظام طوعي بالكامل. 
ويتقدم المتضرر من أي انتهاك لمدونة السلوك، بشكوى لدى أمانة مظالم الصحافة العامة، التي تحقّق في القضية ثم تقدّم اقتراحات بالعقوبة لمجلس الصحافة. ويأتي تمويل المؤسستين من أربع منظمات صحفية، هي: جمعية ناشري الصحف، ورابطة ناشري المجلات، واتحاد الصحفيين السويدي، ونادي الصحافة الوطنية. وهم مسؤولون عن وضع مدونة سلوك تنص على معايير صارمة بخصوص الدقة والخصوصية وحق الرد. وغالبية أعضاء المجلس الذي ينفذ العقوبات هم من عامة الناس برئاسة قاض. وفي حال إدانة أي وسيلة إعلام، فإن على الأخيرة نشر قرار المجلس ودفع غرامة تقارب ثلاثة آلاف دولار في صندوق المجلس.
أما أمانة المظالم، فأنشئت العام 1969 برئاسة رئيس المظالم البرلمانية، ورئيس نقابة المحامين السويدية، ورئيس نادي الصحافة الوطنية. وكلّفت بصياغة مدونة سلوك بتوقيع ممثلي الصحف والمجلات والمؤسسات المرئية والمسموعة. 
لدى تلقيها أي شكوى بخرق لمدونة لسلوك، تتحقق الأمانة من إمكانية "تصحيح" الخطأ أو منح الجهة المتضررة حق الرد عبر التواصل مباشرة مع وسيلة الإعلام. وفي حال فشل هذه المحاولة، تجري الأمانة تحقيقا في الشكوى للتأكد من أن المؤسسة الإعلامية خرقت قواعد السلوك، ثم تطلب من الوسيلة المخالفة الرد على الشكوى خلال مدة لا تتعدى ثلاثة أشهر.
وفي سريلانكا، أيضا، وضع الإعلاميون مدونة سلوك في ختام مؤتمر وطني عقد العام 1998، بمشاركة ممثلي وسائل إعلام محلية، ومنظمات غربية معنية بالدفاع عن حرية الإعلام، واتحاد ناشري الصحف العالمية. ويحتكم مجلس الشكاوى هناك إلى بنود المدونة لدى التعامل مع الشكاوى. ويحق للمحكمة العليا في كولومبو تطبيق قرار التحكيم في حال رفضت المؤسسة الإعلامية نشر نتيجة تحقيق لجنة حل النزاعات التابعة للمجلس.
عودة إلى الأردن والسؤال المليوني: هل يبادر الإعلاميون -على اختلاف مشاربهم ومرجعياتهم- إلى تنظيم مهنتنا ومراقبة سلوك وسائط الإعلام، بما يمأسس لممارسات فضلى داخل غرف الأخبار وفق النماذج العالمية، أسوة بزملاء في العديد من الدول؟ هل نوفّر للمجلس المنشود مثل هذه المدونة، بحيث تشكّل إحدى أدوات الاستقلالية، أم نترك الأمر للحكومة ونقابة الصحفيين التي لا تمثل جميع الإعلاميين، لتقررا بالإنابة عنا، وتفرضا منظورهما باسم حماية الإعلام من المسيئين الذين يبررون دوافع الحكومة بإسكات الحريات الإعلامية؟
بالتأكيد أهل مكة أدرى بشعابها. وعلينا اقتناص هذه الفرصة. فهل ينحي رؤساء التحرير خلافاتهم السياسية والشخصية والثقافية، ويلتقون حول هدف مأسسة المهنية الإعلامية وصونها؟ فالمهنية طوق نجاتنا الوحيد، وأقصر الطرق لرفع السقف المتداعي، بوقف معاقبة قطاع الإعلام برمته، وتغييب المعلومة والتعامل مع الصحفيين "بعنجهية" وفوقية وإرسالهم إلى المحاكم أحياناً.
تخيلوا السيناريو التالي: لو دعت شخصية إعلامية مستقلة موضع احترام في الوسط الصحفي، إلى اجتماع تأسيسي لوضع مدونة سلوك، ثم استجاب رؤساء التحرير وتوافقوا حولها كما التزموا بتنفيذها؛ ألن يستطيعوا وقتها إقناع الحكومة بتبنيها، وبعد ذلك بإمكانهم مساعدة الوزير د. المومني واللجنة التي يرأسها على الإجابة عن الأسئلة الرئيسة التي فشل اجتماع الأسبوع الماضي في حلّها؟
لننظم أنفسنا بأنفسنا طواعية، بدلا من أن تقوم الحكومة بتنظيمنا غصبا!