«اللامركزية»..وشراء المراوح



في اليوم الذي بدأ فيه مجلس النواب بمناقشة مشروع قانون اللامركزية، زار رئيس الوزراء الدكتور عبد الله النسور مديرية أراضي شمال عمان،ولفتني في تلك الزيارة أن الرئيس أوعز للدائرة بشراء مراوح ،استجابة لمطالبات المراجعين الذين اشتكوا من عدم وجود أجهزة تكييف ومراوح، في ظل ارتفاع درجات الحرارة ، ولعل هذه من الأمور الطريفة في إدارة أجهزة الدولة، إذ أن شراء مراوح هي من صلاحيات مدير الدائرة ،أو حتى المدير الاداري فيها،ولا تحتاج الى توجيه من رئيس الوزراء !
طبعا لا يمكن تقزيم مشروع اللامركزية الى درجة شراء مراوح، لكنني استشهد بهذه الحادثة للتأشير على حجم الترهل والبيروقراطية الادارية، فنحن أمام مشروع لإعادة هيكلة إدارة الدولة ،التي استقرت على نمط بيروقراطي محدد طيلة عقود من الزمن، تغولت خلالها العاصمة عمان على بقية المحافظات والأطراف، في الادارة والتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. رغم أن الغالبية العظمى من النخب السياسية والادارية في عمان، جاءت أصلا من المحافظات واستقرت في العاصمة.
المشروع في جوهره يتضمن ترشيق إدارة الدولة ،من خلال ترحيل بعض صلاحيات الحكومة المركزية في عمان، الى المحافظات عبر إيجاد جسمين لادارة شؤونها في مختلف حقول التنمية، جسم تنفيذي معين من مدراء الدوائر برئاسة المحافظ ، يكون بمثابة «حكومة مصغرة»، تضع خطط تنمية المحافظة ووتقوم بتنفيذها،وجسم تشريعي منتخب مباشرة من المواطنين يسمى مجلس المحافظة «أشبه ببرلمان»، له صلاحيات إقرار أو رفض خطط المجلس التنفيذي،وبالتالي لا حاجة لتدخل الحكومة المركزية ،سوى أنها تضع للمحافظة مبلغا محددا في الموازنة العامة.
خلال نقاشات مجلس النواب لمشروع القانون ، ظهرت إشكالية تتعلق بارتباط المحافظين بوزير الداخلية ،ومخاوف من احتمال أن يكون ذلك ،نافذة لتدخل الحكومة المركزية في شؤون المحافظات، وبعض النواب طالب بارتباط المحافظين برئيس الوزراء ، لكن الرئيس أشار الى نقطة هامة خلال زيارته الى مادبا ، فأقر بوقوع سهو في مشروع القانون المحال من الحكومة الى البرلمان ، حيث ورد فيه أنه اذا اختلف المجلس المنتخب مع المجلس التنفيذي، يكون الحسم من قبل الحكومة المركزية، وأعلن الرئيس أن الحكومة تراجعت عن هذه الصيغة ،وأبلغت مجلس النواب بذلك وتركت له أمر تعديل هذه المادة ، لجهة إبقاء صلاحية القرار في الميدان بين المنتخبين والمعينين، وعليهما تحمل مسؤولية ونتائج ذلك على مصالح المواطنين.
لا شك أن المشروع طموح وينطوي على خطوة ديمقراطية، تتيح للمواطنين انتخاب ممثليهم المسؤولين مباشرة عن إدارة شؤون محافظاتهم، وتخفيف عبء الخدمات عن النواب في البرلمان، وذلك يتطلب إعطاء صلاحيات واسعة وشفافة لمجالس المحافظات ، بحيث لن تكون حاجة لتدخل الحكومة المركزية في تفاصيل إدارة شون المحافظات ،ولا يضطر المواطن للذهاب الى عمان لانجاز معاملة.
نتائج الانتخابات لن تكون مثالية ،وبالتأكيد ستلعب التوازنات العشائرية والجهوية دورا مهما في مخرجات العملية الانتخابية، كما هو الحال في انتخابات مجلس النواب ، طالما ان الحياة السياسية لا تزال فقيرة ،في وجود أحزاب جماهيرية لها حضور حقيقي في المجتمع.
في تجربة المجلس الاستشاري السابق المعين، الذي شكل خلال فترة تعطيل الحياة البرلمانية حتى عام 1984 ،كان يضم نخبا على مستوى عال من الكفاءة والعلم والخبرة ، يتفوقون على كثيرين من النواب الذين تم انتخابهم في مجالس نيابية بعد عودة الحياة البرلمانية،لكن نقطة الضعف أن المجلس الاستشاري ،لم يكن له صلاحيات تشريعية،وكان معينا من قبل حكومات لم تحصل على ثقة برلمان منتخب.
الديمقراطية بحاجة الى ممارسة عملية ، كما التدريب على السباحة يتم داخل الماء وليس على السرير ، وبقدر ما تتاح فرص التمرين على التصويت وانتخاب ممثلي المواطنين بنزاهة تترسخ العملية الديمقراطية.وعلى أية حال العبرة في حسن التطبيق.