دعونا نمضي

لا يغيب الجدل والنقاش حول أولويات الإصلاح محليا؛ بالمفاضلة بين ما إذا كان المطلوب أولا هو إصلاح سياسي أم اقتصادي.
الانقسام حاصل. إذ ثمة فريق يؤمن أن الإصلاح الاقتصادي وتحقيق الرفاه يُعدان الأهم، وبحيث تبقى إمكانية تأجيل الإصلاح السياسي إلى حين ميسرة.
هذا الفريق، وبافتراض حسن النوايا والتركيز على الأولويات فعلاً بعيدا عن العقلية المحافظة التي تفضل إرجاء الإصلاح السياسي بدعوى أن المجتمعات غير جاهزة للديمقراطية، يرى في معالجة الاختلالات الاقتصادية أساسا لكسب رضا المجتمع وتخليصه من مزاجه السلبي وامتصاص حالة الاحتقان، كما في إتمام الإصلاح السياسي.
الفريق الثاني يذهب بالاتجاه المعاكس؛ إذ يقدم الإصلاح السياسي على "الاقتصادي"، إيمانا بأنه من غير "السياسي" لن ينصلح الجانب الاقتصادي، وسنبقى ندور في حلقة مفرغة من دون التوصل إلى حلول لمشكلاتنا الاقتصادية والاجتماعية على حد سواء.
هذا النوع من الجدل أو الاختلاف سيبقى قائماً. لكن لا يمكن لأحد إنكار أن الإصلاح السياسي، بما يوفره من حاكمية رشيدة تقوم على معايير الحكم والإدارة السليمة، هو إصلاح يكفل تحقيق تغير في السياسات الاقتصادية، وأيضا وضع حد للتراخي الحكومي في إدارة الملف الاقتصادي والاستثماري على حد سواء، لناحية انعكاس ذلك إيجابيا على المجتمعات.
بالعودة إلى المفاضلة بين الأولويات، يمكن القول إن اللبنة الرئيسة للإصلاح الشامل هي الإصلاح السياسي الذي يضع القواعد، ويعبد الطرق للمضي في باقي المحاور.
فالنتائج الواقعية للتجربة العملية، تثبت أن الإصلاح الاقتصادي يبقى قاصرا في حال لم يُبنَ على قاعدة سياسية متينة، تقوم على رقابة حقيقية لمجلس نواب ممثل للمجتمع، وحريص على المصلحة العامة.
اليوم، وفي سياق الحديث عن وضع قانون جديد للانتخاب، يتجدد الأمل بأن الأردن ماضٍ خطوة مهمة في طريق الإصلاح السياسي، يتم بموجبها دفن نظام "الصوت الواحد"، للبدء بمرحلة جديدة من الإصلاح، أهم ركائزها التأسيس لفكرة انتخاب مجالس نواب مختلفة.
ويبدو إيجابيا أن مراكز صنع القرار، على تنوع ولربما تباين خلفياتها، باتت تؤمن أن صلاحية قانون الانتخاب القائم على "الصوت الواحد" قد انتهت، وليتجاوزه التفكير نحو صيغة جديدة وضعها وزير الشؤون السياسية د. خالد الكلالده، وسعى جاهدا لتمريرها لدى مختلف الجهات ذات العلاقة.
بصراحة، لا يمكن الفصل بين الإصلاحين؛ السياسي والاقتصادي، فكل واحد منهما يعاني عرجا من دون الآخر، فلا يفي بالغرض منه. ولتكون الوصفة السليمة لمعالجة التشوهات بحاجة إلى تفكير شامل، يأخذ هذين المسارين بعين الاعتبار، من دون الانتقاص من أهمية كل منهما على حدة.
الوقت يمضي ونحن ما نزال نتجادل بشأن الأولويات، بحيث بات هذا الجدل مجرد إضاعة جديدة للفرصة. وربما يساهم وضع قانون انتخاب عصري في وضع حد لذلك، فيقتنع الفريق المناصر للإصلاح الاقتصادي والراغب فيه، بأن الحاكمية الرشيدة ومجلس نواب قويا ممثلا، هما الأساس القادر على تحقيق طموحاتهم الاقتصادية.
كذلك، يؤمّن هذا النهج طريقا آمنة للمستقبل؛ بأن يكفل تطوير الديمقراطية، ويضيف لبنة جديدة في سياق تطبيق خريطة الإصلاح الشامل التي رسمها جلالة الملك وحددها في أوراقه النقاشية، الأمر الذي يصب، بالمحصلة، في ترسيخ أمن واستقرار الوطن.
الأهم من الجدل حول الأولويات، هو توفر إرادة الإصلاح والتغيير، وهي موجودة؛ بما يعني التحرك نحو الخطوة التالية المتمثلة في اتخاذ خطوات حقيقية لا تؤخرها عقلية محافظة أو أجندات خاصة لدى البعض، لتحقيق مكتسبات يعلمون جيدا أنهم سيخسرونها في ظل الإصلاح الحقيقي. فدعونا نمضي.