الحب.. لا يبني بيتاً

كثير من العشاق خلدهم التاريخ، لكن أيا منهم لم يتزوجوا، ليقدموا لنا دليلا على الحب «الزوجي» الدائم.
إذا تمعنا جيداً في قصص الحب الأشهر سنجد أن العلاقة لم تتكلل بالزواج، وإن تكللت، فلفترة تقصر أو تطول، ويتبعها عادة الندم.
وشتان ما بين الحب الذي يعبر عن أنبل المشاعر التي تصدر من القلب، وما يحويه من إشراق وألق ولوعة واشتياق، وما بين الزواج الذي هو مؤسسة، وبناء ومسؤولية يقاس بالمسطرة.
ولكي لا ينحصر الكلام في العموميات، نستذكر أن قيس بن الملوح، الذي عاش في فترة خلافة مروان بن الحكم وعبد الملك بن مروان في القرن الأول من الهجرة في بادية العرب، عشق ابنة عمه ليلى فرفض والدها تزويجها له لأنه شبب بها، أي قال الشعر في وصفها ووصف محاسنها، فانتهى مجنوناً يهيم على وجهه في الصحراء. ولعل من أجمل شعره:
أمر على الديــــــار ديار ليـلى ... أقبل ذا الـــــــجدار وذا الجـدارا
وما حب الديار شـــــغفن قلبي ... ولكن حب من ســـــــكن الديارا
لكن قيس بن ذريح، الملقب بمجنون لبنى، الذي عاش في فترة خلافة أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان في القرن الأول الهجري، فتختلف قصته، فقد تزوج من محبوبته، ثم طلقها استجابة لطلب أمه، كونها عاقرا «لا تلد»، لم يكد قيس يستفيق من طلاقه حتى اشتعل حب لبنى في قلبه من جديد، فهام على وجهه، ينشد الأشعار ويأنس بالوحوش ويتغنى بحبه العذري، ومنه قوله:
أَلاَ لَيْتَ لُبْنَى لم تَكُنْ لـي خُلَّـة ولم تَرَنِي لُبْنَى وَلَمْ أدْرِ ما هِيَـا
وزاد من ولعه وجنونه أن لبنى تزوجت، حتى ساءت حالته وصار شريداً لا يستقر شأنه، وذات يوم رآها مجدداً، فخيرها زوجها بين أن تبقى معه أو أن يطلقها لترجع إلى قيس، فاختارت الطلاق والرجوع إلى قيس، لكنها لم تلبث سوى أيام حتى ماتت، فجن إثرها حزنا وكمداً عليها.
عند الحديث عن عنترة بن شداد العبسي المولود في الربع الأول من القرن السادس الميلادي، والمتوفى قبل البعثة النبوية كما تروي المصادر التاريخية، تبرز قصة عشقه لابنة عمه عبلة بنت مالك، وهو الذي قال فيها:
ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني وبيض الهند تقطر من دمي
لكن الذائع عن قصة عشق عنترة لعبلة هي الأشعار التي خلدها التاريخ، والأحداث التي روتها سيرته، وكثيرا ما يغفل الرواة النهاية التي انتهت اليها قصة حب عنترة لعبلة، وهي قصة الحب الوحيدة التي توجت بالزواج.
عنترة بعد أن خاض غمار المخاطر في سبيل حريته وطمعا بالفوز بعبلة، تزوج على عبلة سبع نساء، وهن:
الأميرة «سروة» التي تزوجها لثلاث ليال ثم تركها دون أن يعرف أنها حامل، و»الهيفاء» المعروفة بقناصة الرجال، التي يقال إنها كانت صديقة مقرّبة من عبلة، و»غمرة» التي حاربته من دون أن يعلم أنها امرأة. وبعدما تعرف إليها، أغرم بها واغتصبها عنوة ثم تركها وهو لا يعلم أنّها حامل بابنه "غصوب” الذي لم تعترف به وربّته على أنه عبد من المقربين إليها. و»مريم»، وهي التي طلبت الزواج بعنترة بعدما أعجبت به. و»مريمان» التي التقاها في بلاط القيصر، و»در ملك» وهي فتاة من كنانة أنجبت له صبيين.
ولك أن تتصور الحقد الذي نما في قلب عبلة على زوجها، جراء ذلك. ومهما يكن فإن قصة عشق عنترة وهيامه بعبلة تفتقد الى الوفاء.. وهل هناك قصة حب بغير وفاء؟
وكذا الحال في الادب العالمي، فـ»اوليفر» بطل رواية «قصة حب» الأشهر في الأدب الامريكي المعاصر يفقد حبيبته التي تزوجها بسرطان الدم. وربما لو لم يفقدها لما كان لهذه الرواية الأهمية الكبرى والتأثير الكبير في أجيال من الأمريكيين.
الحب لا يبني بيتاً، وقصص العشاق لا تقدم دليلا على زواج دائم وناجح وإنما لوعة واشتياق وحسرة، وكم كان ذلك الكاتب الساخر صادقا حين قال: كل روايات الحب التافهة تنتهي بالزواج.