بين السلطة والرأي

لا تظنك وحدك من يبحث عن الخروج من عنق الزجاجة الطويل جداً، لكيفية التوفيق بين صاحب الرأي وصاحب القرار، وكيف يصل لموقع القرار صاحب الرأي؛ لأن الرأي مهارة وامتلاك القدرة على تقليب الرأي مهارة وملكة وموهبة وتجربة، ولا يقدم أصحاب هذه المهارات إنّما يقدم صاحب القوة والسلطة في العادة.
كنت في عام (2008م) قد كتبت رسالة وجهتها للإخوان أعرض عليهم البحث عن آلية لاختيار أهل الرأي والحكمة الذين لا تفرزهم الانتخابات والآليات الديمقراطية العاجزة ليتمكن من قيادة الجماعة أهل الرأي والبصيرة.
وقد وقفت على قول يعبر عن مرارة كبيرة من القائد المهلب بن أبي صفرة، حيث شكا هذا القائد الميداني الذي هو تحت إمرة الحجاج بن يوسف الثقفي، الذي كان يستحث المهلب على مقاتلة (الأزارقة) من الخوارج والمهلب يستمهله في قتالهم حتى إذا ألح عليه قال:- إن من البلاء أنْ يكون الرأي لمن يملكه دون من يبصره، ولعله أتبع قوله بعاصفة من الزفرات والتأفف والألم.
وهذه أس المشكلات ومصيبة المصائب بين كل صاحب سلطة وصاحب رأي.
عندما تغيب الحكمة والخبرة عن صاحب القرار يأخذ القرار صاحب الانطباع والهوى والسلطة وربما سيئ التقدير، ويأخذ الحزم حده في غير موضعه السديد، فيأتي بما لا تحمد عقباه، فيتناقض مع العقل الحصيف والرأي السديد.
أرأيت خطاب (الشاب الابن) مالك بن عمر بن عبد العزيز لوالده رحمهما الله يستعجله ويقول:- ما يمنعك أن تمضي لما تريد من العدل؟ فوالله ما أبالي لو غلت بي وبك القدور في ذلك.
لكن هذا الصدق وهذا الهدف السليم في تحقيق العدل، ومحبة طاعة الله لا تكفي لاتخاذ القرار الأنسب، فرد عليه عمر رد الحكيم:- لم آمن أن يفتقوا عليَّ فتقاً تكثر فيه الدماء..، لا تعجل يا بني فإن الله ذم الخمر في كتابه مرتين وحرمها في الثالثة.
قيل:- الناس حازمان وعاجز فأحد الحازمين الذي إذا نزل به البلاء لم يبطر وتلقاه بحيلته ورأيه حتى يخرج منه، وأحزم منه الصارف بالأمر إذا أقبل فيدفعه قبل وقوعه، والعاجز في تردد وتئن، حائر بائر لا يأتمر رشداً ولا يطيع مرشداً.
نصح شيخ كبير قومه (سبيع) بني حنيفة (قوم مسيلمة الكذاب) الذين ارتدوا عن الإسلام ودخلوا في حرب مع المسلمين لكنهم لم يسمعوا فقال:-
«يا بني حنيفة، بُعداً لكم كما بعدت عاد وثمود، أما والله لقد أنبأتكم بالأمر قبل وقوعه كأني أسمع جرسه وأبصر غيبه، ولكنّكم أبيتم النصيحة، فاجتنيتم الندم، وأصبحتم وفي أيديكم من تكذيبي التصديق، ومن تهمتي الندامة، وأصبح في يدي من هلاككم البكاء ومن ذلّكم الجزع، وأصبح ما فات غير مردود، وما بقي غير مأمون، وإني لمّا رأيتكم تتّهمون النصيح وتسفّهون الحليم استشعرت منكم اليأس وخفت عليكم البلاء.
وهكذا في الرأي بلا قرار لا يعدو أن يكون سبقاً في قراءة المستقبل قبل حدوثه، ومن هنا فقد غضب الشاعر العربي وقال:-
لا تعطين الرأي من لا يريده
فلا أنت محمود ولا الرأي نافعه
وقد نقل عن ابن تيمية رحمه الله:- ليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر إنما العاقل الذي يعلم خير الخيرين وشر الشرين، وأنْشَد.
إنّ اللبيب إذا بدا من جسمه مرضان مختلفان داوى الاخطرا.
وقال:- استقرت الشريعة بترجيح خير الخيرين ودفع شر الشرين وترجيح الراجح من الخير والشر المجتمعين، وهذا الذي تحتاجه الدول والشعوب والأحزاب والجماعات وحتى أسر البيوت.