عندما يقتل الشرف

كم يتلوى الشرف ألما من خناجر المفاهيم الزائفة التي مزقت قيمه، وأثقلت كاهله، وشوهت ملامحه، فصار أسيرا في زنزانة لا يتخللها من الضمير هواء، أو يصلها من الحق صوت، أو يتسرب إليها من العدل نور.
كعجينة صارت المفاهيم الاجتماعية والثقافية تشكل الشرف بعيدا كل البعد عن مفهومه الحقيقي الذي يعني الموضع العالي أو العلو والمجد، ما يعني أن مفهوم الشرف متصل بالقيم الحميدة، وممتد في الأخلاق السامية، ولصيق للسلوك الإنساني الرفيع.
لم تذكر كلمة شرف في القرآن الكريم، أو ترد في السنة النبوية، ولا نعرف من الذي صاغ مفهومه ووأده في مساحة ضيقة فيها تضرم نار الأنانية الذكورية، والظلم، والبعد عن الله.
لا شك أن مفهوم الشرف شُكل في المجتمعات حامية الدماء على مدى تراكمات اجتماعية وثقافية، وتركز مضمونه في الجوانب الأخلاقية المرتبطة في سلوكيات الأنثى فقط، دون إدراج الرموز الذكرية التي جثمت فوق مظلته لا تحتها في مجتمعات للأسف توحد الله، وتعمل بسنة نبيه.
لم يفرق الإسلام بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات والقصاص، فجسد العدالة الإنسانية بعد أن رسم الملامح الأخلاقية للجنسين دون تمييز أو انحياز، وحرم الظلم والأذى والتعدي على حقوق الغير والإساءة بكل أشكالها.
ولأن مفهوم الشرف لم يسلم من العبث الاجتماعي والثقافي، ظل سيفه مشهرا لامعا فقط في العلاقات غير الشرعية، وساكنا في غمده أمام تمتمة الكذب، والغش، والرشوة، والفساد، والإساءة للآخرين، والتحرش، والظلم، وعقوق الوالدين، وانعدام الأمانة في العمل وغيرها الكثير من الانحرافات السلوكية التي تزيد من هشاشة قيمنا الأخلاقية وتسحقها، فذاب في المضامين الأخلاقية وتلاشى، ولم يعد له موقع في سلوكنا وتعاملنا.
للأسف أصبحنا ننظر للعلاقات غير الشرعية على أنها جريمة اجتماعية، لا كبيرة من الكبائر التي نهانا الله عنها، فلم نلاحق مرتكبي الكبائر الأخرى في مجتمعاتنا الذكورية بدافع الشرف، وتُركوا دون أن يُغسل المجتمع من عارهم، فقتلت الأنثى التي تورطت بتلك العلاقة باسم الشرف، فيما تُرك شريكها طليقا متمتعا بالحصانة الذكورية الدائمة «أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض».
أصبحنا نغني للشرف على ربابة القتل، وننصب أنفسنا في الأرض قضاة نعاقب من ربما عادت إلى الله فغفر لها، وكانت عنده أفضل من كثير من المفسدين في الأرض ولكن لا يشعرون «وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون».
لأننا جعلنا للشرف قيمة تسقط فقط في أسواق العلاقات غير الشرعية، ولأننا تركنا بقية الآفات الأخلاقية تنخر أساس بنائنا الديني والاجتماعي والثقافي، أصبحنا عالما ثالثا متأخرا، فيما وصل «عديمو الشرف» إلى القمر، وأسرفوا في التقدم والبناء والتطور، فصرنا نعتمد على فتات تقدمهم في جميع المجالات دون أن ندرك مفهوم «شرفهم» الصحيح الذي يطبقونه في السلوك والعمل والقانون.
بقي أن نقول إنه يجب أن نُسلم بالعقوبة التي حددها الله عند كل تجاوز، العقوبة التي لم تتنافَ مع الإنسانية والكرامة والعدل «ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير»، ولأنه وحده العليم بنا، وضع لنا دستورا يبني مجتمعاتنا، وينهض بإنسانيتنا، ويسمو بكرامتنا، فلماذا نرهق ضمائرنا بلون الدم المطبوع على نصل الشرف الزائف؟ ونسلب من فطرتنا فرصة تذوق العدل، والتلذذ بعذوبة حلاوته.