تلفزيون الخدمة العامة.. إضافة نوعية أم "دكان" جديد؟


لعلّ من أكثر الأمور التي تشغل بال المهتمين بمحطة الخدمة التلفزيونية العامة التي ستنطلق قريباً هو مدى الاستقلالية التي ستتمع بها هذه المحطة، ومستوى الحصانة التي سيحظى بها مجلس إدارتها باعتبار أنه الموضوع الأهم في سياق إنطلاق محطة يراد لها أن تضاهي الـ BBC وفرانس 24 وغيرهما من محطات الخدمة وإن على الصعيد المحلي.
النية تتجه إلى أن تكون المحطة محصنة قانونياً وإدارياً لضمان استقلاليتها، ويقال أنه سيتم تعيين مجلس إدارتها بإرادة ملكية سامية لضمان عدم وجود تدخلات في عمله، على غرار المركز الوطني الأردني لحقوق الإنسان والهيئة المستقلة للانتخاب، وسيكون مجلس الإدارة هو المسؤول عن وضع سياسات القناة التحريرية واختيار الموظفين بمن فيهم الإدارات التنفيذية، ولكن هل يكفي ذلك لضمان استقلالية المجلس وحريته في اتخاذ قراره حين نعلم أن الحكومة ـ كما جرت العادة ـ هي التي ستنسب بتعيين هذا المجلس؟ وهل هناك ضمانات من إقالة المجلس إن غضبت عليه الحكومة أو رئيسها؟ وهي ليست ـ أي الحكومة ـ إلا واحدة من مراكز النفوذ المتعددة في بلدنا؟ فضلاً عما يقال من أن الحكومة هي من ستقوم بتعيين مدير المحطة، وبالتالي فهل يستطيع مدير معيّن من قبل الحكومة تجاهل توجيهاتها ورغباتها؟؟
لكن وبافتراض أن إدارة المحطة ستتمع فعلياً بالحصانة وسيكون لديها الصلاحيات الكاملة في رسم سياسة المحطة التحريرية وتنفيذها، فإن هناك أمراً لا يقل أهمية عن هذه النقطة، وهو الآلية التي سيتم بموجبها تعيين الإدارات التنفيذية، والمعايير التي سيضعها مجلس الإدارة لاختيار الكفاءات البشرية المؤهلة والقادرة على تسيير المحطة وتنفيذ سياستها الإعلامية كما ينبغي، والسؤال الأبرز هو هل سيتم استقطاب كفاءات حقيقية أم ـ كما جرت العادة ـ ستتدخل الواسطة والمحسوبية في الموضوع.
صحيح أن موضوع التعيين واختيار الإدارات سيكون مرتبطاً إلى حد كبير بمدى الاستقلالية التي سيتمتع بها مجلس الإدارة، لكنه أيضاً سيكون مرتبطاً بشخوص أعضاء المجلس وبالذات رئيسه، وإن كان يراد للمحطة أن تسير كما خُطط لها فإنه ينبغي أن يوضع على رأسها شخص يتمتع بصفتين أساسيتين؛ أولاهما أن يكون قادماً من القطاع الخاص أو يتمتع بعقلية هذا القطاع، لأن أبناء القطاع الحكومي سيعملون بذات العقلية التي تعودوا عليها في مراكزهم السابقة، وثانيهما أن يتمتع هو كشخص بالاستقلالية وألا يقبل على نفسه أن يخضع للضغوطات من أي نوع كانت، وهذا النوع وإن كان قليلاً في مجتمعنا إلا أنه موجود، فاستقلالية المحطة لا يمكن لها أن تكون حقيقة إن لم يكن على رأسها شخص مسقل وقوي يضع المعايير المهنية فوق كل اعتبار.
هناك من يطرح فكرة التعيين عبر ديوان الخدمة المدنية لضمان العدالة في التعيين وعدم تدخل الواسطة والمحسوبية في تعيين كادر المحطة، وهذا أسوأ بكثير، لأن العمل الإعلامي عمل إبداعي ينبغي ألا تتحكم فيه حسابات التعيين في الجهاز الحكومي والالتزام بالدور الذي ليس هناك من يلتزم به أصلاً، التعيين ينبغي أن يتم عبر اختبارات ومقابلات نزيهة وشفافة وتعتمد فقط على الخبرة والكفاءة المهنية بعيداً عن قوائم ديوان الخدمة المدنية، وبعيداً أيضاً عن حسابات المناطقية والعشائرية التي تتدخل في أدق تفاصيل حياتنا.
هناك مبدعون لا يعرف عنهم أحد لأن الفرصة لم تتح لهم بعد، هناك خريجون يملكون من الموهبة أضعاف ما لدى عشرات الوجوه التي نراها على شاشاتنا، ومن يقفون خلف تلك الشاشات أيضاً، هناك أيضاً صحفيون مهمشين في مؤسساتهم، والكثير من الطاقات التي لم تجد حتى الآن من يطلقها، والغالبية العظمى من المواهب الأردنية لا نشاهدها إلا على الشاشات العربية، لأن شاشاتنا المحلية حكر على أصحاب النفوذ ومن لفّ لفـّهم، لذلك فإن هذه المحطة أمام فرصة تاريخية لجمع كل هذه المواهب والطاقات في مؤسسة إعلامية محلية، وستكون في مواجهة اختبار كبير لتسخير هذه الطاقات في تشكيل حالة إعلامية مميزة وترقى إلى مستوى الطموح، أما أن تظل آلية "الدحش" و "التنفيع" و "الترضية" و "التزبيط" هي المتحكمة في تعيين كوادرها، فإنه مهما كانت درجة الاستقلالية التي ستحظى بها عالية، ومهما كان الدعم المالي الذي ستناله سخياً، فإنها لن تكون سوى مجرد "دكان" ضمن "دكاكيننا" التلفزيونية المحلية التي لا يشاهدها سوى العاملون فيها وبعض أصدقائهم.
Tariq.hayek@gmail.com