من إخراج المشركين إلى قتل المصلين.. ما الذي يجري؟!

هناك كثير من التشويش واللغط في تناول مسألة الإرهاب، كباقي الملفات العالقة في مشهدنا المحلي والتي تتنازعها أطراف متصارعة لمحاولة تعزيز موقفها السياسي أو محاولة تقديم نفسها كمخلص وبديل للتطرف المسلح، في حين أن هذا النزوع لاستغلال الإرهاب بات صنيعة الدول الكبرى والاستخبارات والتيارات السياسية والأحزاب الإسلاموية التي تعمل تحت غطاء الفضاء الديني العام، فالكل يحاول تشخيص الإرهاب من زاويته فقط، وهو ما أتاح فراغًا كبيرًا على المستوى المفاهيمي والمرجعيات ليتعملق الإرهاب بعيدًا عن صراعات الديكة التي زادت المشهد تعقيدًا.
منذ أن انبثق الإرهاب بشعارات دينية ودوافع سياسية في منتصف السبعينات وهو يفرز أنواعًا معقدة وجديدة من الطرائق والاستراتيجيات مستفيدًا من التطور الهائل الذي يعيشه العالم، وغير مكترث للحرب عليه لأنه في النهاية يستهدف الكوادر العنفية على أبعد تقدير لكنه لا يمسّ المناخ العام، ولا الفضاء الديني الذي فقدَ مرجعياته منذ انقلاب الإسلام السياسي على المرجعيات التقليدية، ومنذ تحول التيارات المناهضة للإسلام السياسي إلى تفسير الإرهاب عبر حصره في «التطرف الفكري» في حين أن هذا التطرف هو واحد من جملة عشرات المفاتيح لفهم هذه الظاهرة المتنامية والمعقدة.
مرحلة «الجهاد» تحت راية شرعية كانت شرارة البدء وكان «مطبخ بيشاور» ومرحلة أفغانستان الطور البدائي لتكوين عمل مسلح خارج نطاق الدولة وبمباركة المجتمع الدولي آنذاك، ثم إرهاب «القاعدة» ما قبل العولمة كان يستهدف «إخراج المشركين»، وبعد تحالف بن لادن والظواهري لتصبح «القاعدة» ظاهرة عالمية، ودخلت ما يسمى «السلفية الجهادية» على الخط، وهي منتج صنع خارج البلدان العربية وتحديدًا في العواصم الغربية التي احتضنت قيادات إرهابية بارزة والتي كونت مع منظر «الجهاد» أبي محمد المقدسي مرجعية للعنف المسلح جديدة قوضت كل الأطر والاشتراطات التي كانت تأتي من خارج «الجماعات الجهادية»، لاحقًا انشق الإسلام السياسي ثم ترهلت المرجعيات الدينية، ليصبح «الإرهاب» سلعة سياسية رائجة لدى الجميع، ثم ظهرت أشكال جديدة «إرهاب الهويات القلقة»، «الإرهاب الأشقر» الأوروبي، إرهاب الذئاب المعزولة في ضواحي العواصم الغربية، ثم الإرهاب الفردي المجند عبر أقانيم الإنترنت، لنصل إلى «داعش» المزيج مما سبق لكنه يسعى إلى تكوين الخلافة والدولة المزعومة ويرفع شعارات سياسية ويستهدف كوادر من كل أنحاء العالم، ويترشح أن تولد أشكال جديدة كلما تطورت الحالة السياسية، ومع وجود إرهاب ذي مرجعية شيعية في سوريا والعراق فإن إنتاج أشكال جديدة من الإرهاب السياسي الذي تقلص فيه الحضور الديني مرهون بالمناخ السياسي العام الميّال إلى تصعيد الميليشيات.
هل ثمة شيء مفاجئ من الانتقال من إخراج المشركين الشعار الناعم الذي كانت «القاعدة» تبيعه للفضاء الديني بكل أطيافه المعتدلة والرسمية والحركية إلى تفجير المصلين الذي يستنكره المتطرفون، بل وبعض المتعاطفين مع «داعش» باتوا يناقشون في أروقة «المنتديات الجهادية» عن جدواه في تشويه صورة التنظيم!
الجواب: لا كبيرة بحجم تهديد الإرهاب لنا، فتأصيل هذه المسائل مرهون بالحالة الأمنية، فكلما زاد الخناق على الإرهاب أنتج منظروه عشرات الكتب والرسائل والفتاوى لتبرير قطع الرؤوس واستهداف المساجد واستخدام الأطفال وسرقة أموال الدولة بل وقتل الأقارب، لكن الإشكالية أن الجميع يدين الإرهاب ويستنكره لكنه لا يحاول سبر أغواره وفهمه.
المساجد التي تتبع الدولة في نظر منظري الإرهاب هي مساجد ضرار لا حرمة لها، وهذا التأصيل ليس لـ«داعش» ولم يكن وليد الإرهاب الوحشي اليوم، بل هو جدل سمعته بأذني من مجموعات ذات مرجعيات راديكالية في أوائل التسعينات إبان حرب الخليج، ثم ألفت مؤلفات كثيرة في تأصيله أبرزها «تحفة الأبرار في أحكام مساجد الضرار» لأبي محمد المقدسي، وهناك العشرات من الرسائل الأخرى في مسائل استهداف العسكر واستهداف المواقع الآثار والسياح وحكم امتلاك السلاح النووي!
الإرهاب بمنظريه وأتباعه وكوادره لديهم هدف محدد وهو تحويل كل المنطقة إلى «بؤرة توتر» دائمة لأنها المناخ الوحيد الذي يمكنه استقطاب الكوادر، ولذلك فإن الجدل حول النشأة أو علاقة هذا التنظيم بتلك الاستخبارات أو ذلك النظام لن يغير من حقيقة أن الإرهاب باقٍ وإلى وقت طويل ببقاء أسباب التجنيد والتمويل والملاحقة، والأهم المناخ العام المشجع له، وهو ليس فقط مسؤولية الخطاب الديني الذي ينوء بالعبء الأكبر، بل ثمة متغيرات جديدة في ما يتعلق بالشباب في العالم العربي الذي بحاجة على الأقل إلى مبادرة وطنية شاملة لتعزيز قيم الاستقرار.
في دراسة مهمة جدًا في جامعة ميتشيغان عن علم النفس الإرهابي يؤكد الباحثون، ومنهم سكوت أتران، أن معظم الانتحاريين لديهم استقرار نفسي ولم يعرف عنهم أمراض نفسية ملموسة كما أنهم يتحدرون من الطبقة المتوسطة ويحملون تعليمًا لا بأس به، وتخلص الدراسة إلى أن التركيز على فهم الأفراد الانتحاريين غير مجدٍ (non – pathological)، بل يجب التركيز على العوامل الظرفية والخطابات العامة وإنشاء قواعد بيانات للتمييز بين كل عملية ومحاولة فهمها ضمن أحد مسارات وأنواع التطرف الشائعة والجديدة.
تفجيرات بالي كانت سببًا في تأسيس أكبر قاعدة بيانات للإرهاب في العالم من قبل الحكومة الأسترالية، في حين أن استهدافها بات بعيدًا بعد تغيير الإرهاب لاستراتيجيته من استهداف المشركين إلى قتل المصلين.