صالون سوسن للسيدات!

لو كانت صاحبة الصالون النسائي تعرف أن قصد الزبونتين، البراقتين اللتين غادرتا للتو باب المحل الموارب، بمكياج العزاء الذي سألتاها عنه، لكانت استدركت الموقف سريعا وما خسرتهما من أجل "قلة الاطلاع”!
لكن لا ننكر أن "سوسن” قد صفنت مع نفسها مطولا ذاك النهار القائظ، لأن ثقافتها لم تعرفها بعد على آخر صيحات الشعر ومساحيق التجميل، الخاصة لكل المناسبات بما فيها الموت. هي لم تحقد على جهلها الشخصي بتلك الإطلالات الخاصة بمناسبة العزاء، لأنها رمت بكامل الثقل والغضب على شريكتها في الصالون، والتي من المفترض أنها تتابع تحديثات الموضة أولا بأول، على الأقل لتملأ فراغها المنتشر في الدكان الصغير. هي غاضبة من نفسها وتخلفها ووقتها الضيق، الذي لا يعطيها نفسا لنفسها تقرأ وتتعلم وتتابع صفحتها على موقع "فيسبوك”، لتصبح جزءا من المجتمع النظيف المتطور، و”اللارج” على رأي واحدة ممن علقت على صور الصالون في الموقع.
هي للأسف الشديد، ولأنها مقبوض عليها تماما منذ الساعة السابعة والنصف صباحا، إلى ما بعد منتصف الليل، لم تتدارك سرعة تطور الأخلاق والقيم في مجتمعها. لم تلحق وهي تركض بين رضا الأولاد والزوج، ونق النساء في المحل الصغير، أن تتعرف على التغيرات الجذرية التي طالت منظومة الأخلاقيات ومؤسسة الأدب والاحترام والطيبة.
هزتها كثيرا فكرة أنها لم تتعرف على ميك اب العزاء الذي طلبته منها زبونتا الصباح، ولكنها وعندما سألت عنه سكرتيرة مديرة دائرة الإعلام في مؤسسة وطنية، وهي أهم زبونات سوسن قدرا وقيمة، عرفت أنه نوع من المكياج الحزين المعتم بلمسة بنية دخانية غامقة على طرفي العينين، وماسكارا مقاومة لدموع مفترضة، وكريم أساس لا يتأثر بتعابير الوجه المطلوب إظهارها!
شغل بسيط إذن لا يستدعي الاندهاش، ولكنها قلة البخت والثقافة، كما تقول لنفسها وهي مشغولة بتصفيف شعر الزبونة الأثيرة.
لذلك وعندما قررت أن تفتح لنفسها صفحة شخصية على موقع التواصل، لم تنتظر شريكتها الكسولة العالة على المحل وزبوناته. بل استعانت بابنة إحداهن لتفعل لها ذلك. وطلبت منها أن يكون اسمها على الصفحة "السوسنة”!
ياه كم تألمت السوسنة من ظلم مجتمعها واستعلائه عليها بالنكت والضحك والسخرية. كم تفاجأت من حجم الانشغال العظيم الذي ملأ الدنيا والذي سببه صالونها الصغير المنزوي على ناصية شارع فقير، في قرية من ذوات الأقل حظا في خدمة المياه والكهرباء والتعليم والصرف الصحي. وقبل كل شيء كم حزنت على مصير بنات حيها، اللواتي جملتهن بنفسها في ليالي الحناء والعرس البسيطة، على أسطح المنازل أو في القاعات الضيقة غير المكيفة!
ياه كم تغير الناس وهي في غفلة اللهاث ما بين مصاريف البيت والمدارس والعيد، وبين مشاكل الصالون ونسائه وكيدهن المرير. هل يمكن أن يصل الاستخفاف بمشاعر البشر، إلى درجة المباشرة والصدمة؟ ومنذ متى بالضبط وفي أي ساعة، قرر العالم الافتراضي بورده وشوكه أن يترك كل شيء، لينشغل بصور عرائس سوسن؟ ألم يلحظ هذا العالم القاسي مثلا بأن تسعين بالمائة تقريبا من صالونات البلد، تقدم الخدمة نفسها بالأداء والإخراج نفسهما، لبنات وسيدات يفرحن كثيرا بنتائجها؟ وأن هذه الفرحة وحدها سبب كاف لبقاء الدكاكين المتواضعة على قيد العمل؟
سيدات وبنات، ربما لم يتعرفن مثل سوسن على مكياج العزاء لأنهن ببساطة وعند سماع سيرة الموت يحزن! إنما وبمبلغ ربما لا يتجاوز العشرين دينارا في ليلة عرس أحد الأقارب، ينتزعنها انتزاعا من الأزواج والآباء المتكركبين بنقوط العريس، بهذه العشرين القليلة، ينظرن إلى أنفسهن نظرة رضا وفرح باسترداد أنوثتهن المرهقة، على أعتاب الكد والدراسة والشغل والجفاف.
لكن، أتعرفون ما هو الجفاف الحقيقي؟ هو المطر الذي زخ على رؤوسهن في ليلة القبض على سوسن، من قبل ناس بدأوا يعتقدون فعلا أنهم ببضع صور "السيلفي” في مطاعم عمان، صاروا يسيرون غيم السماء!