"داعش" وأميركا وإيران.. وتوظيف الإسلام السُني ضد الإسلام الشيعي

عشت في دول أوروبا وأميركا سنين كثيرة؛ بين طالب يبحث عن المعرفة، وأستاذ يقدمها لطلبته. وساكنت وزاملت عديد الإخوة من لبنان وسورية والعراق، وحتى الآن لا أعرف إلى أي مذهب أو طائفة ينتمي كل منهم؛ إذ التساؤل حول هذا الأمر لم يكن جزءاً من التكوين الذهني لأي منا.
وشدني كثيراً ما وجدته في بلاد الغرب تلك، ولا أجد ما يعبر عنه أفضل مما جاء على لسان الإمام محمد عبده عندما قال: "وجدت عندهم إسلاماً من غير المسلمين، في حين يوجد عندنا مسلمون من غير إسلام". وقد عاشت هذه المفارقة في ذهني مع تساؤلات حول هذا الاختلاف، فلم أجد سبباً سوى انفراد كثير من الحكام بالسلطة والاستئثار بها، كإقطاعية خاصة لمن يجلس على كرسيها. وتحت هذا الكرسي وحوله، فقه سلطاني مأجور، يدفع صاحب الكرسي إلى طلب المزيد؛ لا فرق بين فقه سلطاني شرعي سابق، أو دستوري حالي. وترتب على هذا غياب الحريات السياسية في المجتمع منذ قرون. وامتد هذا الغياب حتى الآن؛ إذ لا السلطان ارعوى، ولا الرعية كسرت حاجز الخوف وجأرت لاسترداد حقوقها المأسورة عنده.
وكانت المحصلة أن انحراف أولي أمر من أصحاب السلطة، وفسادهم، أنتجا فقراً وتخلفاً، وتأثيراً على السلوك الفردي والجمعي والقيم الفاضلة؛ فأصبح النفاق وسيلةً للتكسب وللباحثين عن موقعٍ في السلطة، كما أصبح الكذب وخراب الذمم والقيم والخروج على القانون جزءاً من وسائل كسب لقمة العيش، وفساد من هم بالقمة يرتعون، مبرراً لهم وبه يتسترون. وعندما ارتدى الإرهاب ثوب الجهاد الإسلامي، وأصبح تجارة عند صاحب المال والنفوذ، ودفعه للمال بسخاء، تقاطر إليه الباحثون عن ملاذ من ظلم سلاطين.
وفي الوقت الذي نشرت فيه عدة مؤلفات وعشرات المقالات والدراسات عن الإصلاح الدستوري في مجال الحقوق والحريات السياسية، فقد وجدتُ أن الفقه السلطاني الشرعي، الذي استقر في بطون كتب بعينها، وخدم من أرادوا استثماره، يسهل إيقاظه واستدعاؤه، ليلبس عمائم أميركية ويبطش بالحاضر، فيكون القاتل مسلماً والمقتول مسلماً، والمنتشي بالقتل عرابا من "بلاد الكاوبوي".
هكذا وجدت نفسي أعكف على إعداد كتاب عنوانه الأولي "الإسلام والحريات السياسية وإصلاح ما أفسده السلاطين وفقهاؤهم". وهذه الدراسة هي جزء من فصل مطول من الكتاب، وجدت أن المرحلة الحاضرة تستدعي نشر إيجاز لها، على النحو التالي:

1. أميركا تصدر الفتوى الشرعية الدامية والسلاطين وفقهاؤهم يصدعون بالتنفيذ
فوجئ العالم يوم 9/6/2014، بقيام تنظيم تكفيري يطلق على نفسه اسم "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، أصبح يعرف بتنظيم "داعش"، باحتلال مدينة الموصل ذات المليوني نسمة، وثاني أكبر المدن العراقية، بعد انهيار قوات الجيش العراقي هناك، واستيلاء التنظيم على معسكرات هذا الجيش وأسلحته وعتاده، فضلاً عن استيلائه على فرع البنك المركزي في المدينة بما فيه من مئات الملايين من الدولارات، كما على حقول النفط هناك. ثم سقوط مدينة تكريت، عاصمة محافظة صلاح الدين، بعد يومين، وإعدام آلاف المواطنين. وفي 29/6/2014، أعلن التنظيم قيام "الخلافة الإسلامية" في العراق وسورية، وتنصيب أبي بكر البغدادي ""خليفة" في الدولة الجديدة.
وسرعان ما تحولت أنظار العالم، وصحفه ووكالات أنبائه، إلى العراق، متسابقة بلهفة على نشر أعداد آلاف القتلى والجرحى، ومئات الآلاف من النازحين؛ يشدها إلى ذلك أن تنظيماً ارهابياً دموياً أصبحت له بقعة جغرافية أسس فيها "دولة" لينطلق منها في توسعه، ويسيطر على حقول نفط الموصل، فيموّل نفسه من ثمن بترولها، ويصبح أغنى التنظيمات الإرهابية.
وسبب المفاجأة أن هذا التنظيم لم يكن له ذلك الحضور الذي يشي بهذه القوة على الساحة العراقية أو غيرها، لكنه خلال شهر حزيران (يونيو) من العام 2014، ظهر بقدرات تنظيمية وقتالية تهزم جيشاً وتحتل أراضي شاسعة لإقامة دولة وتنصيب خليفة عليها. وهو يتبع أساليب في قتل خصومه أو من لا يؤمن بنهجه، غاية في الوحشية والشذوذ؛ مثل الذبح والصلب وتقطيع جسد الإنسان والحرق، وغيرها.
ووفقاً للدراسات الباحثة في جذور هذا التنظيم، فقد كان في الأصل فرعاً لتنظيم "القاعدة" في العراق، شأنه في ذلك شأن العديد من التنظيمات الأخرى؛ يحارب القوات الأميركية منذ احتلالها العراق العام 2003. وكانت أميركا قد أنشأت تنظيم "القاعدة الأم" في أفغانستان، ليحارب الاتحاد السوفيتي ويصطاد الدب الروسي هناك، انطلاقاً من مفهوم جهادي إسلامي عند أهل السُنّة، فصلته أميركا بالتعاون مع بعض الدول العربية والإسلامية، باعتباره واجباً عقدياً يحض عليه دين المسلمين. وللوصول إلى ذلك، تم إنشاء آلاف المدارس الإسلامية التي تلقن طلابها وعناصر حركة "طالبان" كيفية الجهاد في الإسلام.
ووفقاً للأمر الرئاسي الذي وجهه الرئيس الأميركي جيمي كارتر في حينه، إلى الجهات الأمنية والعسكرية والسياسية الأميركية في أواخر العام 1980، فإن على هؤلاء المسلمين الذين سيتم حشدهم لمقاتلة الاتحاد السوفيتي، أن ينطلقوا من عقيدة راسخة، بأن من يموت يكون شهيداً مـأواه الجنة، ومن يظل حيّاً، فله مكافأة مالية تجعله يعيش سعيداً في حياته. وكانت صيغة الأمــــر الرئاســي حسبمـا أورد نصـه جون كولي (John K. Cooley) في كتابه "الحروب غير المقدسة" (Unholy Wars)، والصادر في العام 2002،على النحو التالي:
"تكون قيادات العمليات في وكالة المخابرات المركزية ( CIA)هي الجهة الوحيدة في الحكومة الأميركية التي عليها واجب تنفيذ المهمات السرية في دعم قادة الدول الأخرى، والأحزاب السياسية أو حرب العصابات في أفغانستان. وينبغي استخدام أقل عدد ممكن من رجال الـ CIA، والتأكد من أن المقاتلين المستخدمين لديهم الحرص والدافع للقتال وتم تدريبهم على أفضل وجه ممكن. وأن يقوم رجال وكالة الـ CIA باختيار زملاء لهم من رجال القوات المسلحة، وبدعم من الجيش الباكستاني، بتدريب جيش المسلمين المتحمسين، فور الحصول على موافقة باكستان. وأفراد هذا الجيش يمكن الدفع لهم بسخاء، وسيتم تدريبهم وتشكيل جبهة منهم بمساعدة الحكومات الإسلامية المعادية للشيوعية... وهناك وحدات عسكرية أخرى ستلحق بهم في الوقت المناسب. فهذه الدول يمكن أن تدرب جيشاً ضخماً من المرتزقة المستأجرين، ليكون أكبر جيش شهدته أميركا في تاريخها. وعملياً يجب أن يكون جميع أفراد هذا الجيش من المسلمين المتعصبين في اعتقادهم بأن الله يأمرهم بمحاربة أعدائه المتمثلين في الروس الذين غزوا أفغانستان المسلمة، وأن مكافأتهم في الحياة الدنيا ستكون السعادة الدنيوية والمكافأة المالية الشخصية، وأن من سيموت منهم سيكون شهيداً ومأواه الجنة" (الصفحتان 13 و14).
ولهذه الغاية التي حددها كارتر، تم تزويد المجاهدين بنشرات وكتبيات تعلمهم فنون القتال وطرائقه. لكن منذ أن تم طرد الاتحاد السوفييتي من أفغانستان، وعودة المجاهدين إلى أوطانهم، وبداخلهم عقيدة الجهاد التي تمكنت منهم، أصبحوا في نظر دولهم ودولة أميركا والعالم الغربي عموما، إرهابيين. وهكذا أصبحت الساحة العراقية مأوى للمجاهدين من تنظيم "القاعدة" الإرهابي، يمارسون فيها ما تعلموه من فنون القتال، ولكن ضد جنود أميركا.
ويبدو أن تطرف "القاعدة" ونهجها الذي يدعو إلى الجهاد وإقامة الخلافة الإسلامية، وأسلوبها في ممارسته، لم تكن كافية عند عديد من القيادات المستجدة على التنظيم في فرع العراق، حيث رأت أن المراجع الدينية التي تستند إليها تفرض نهجاً في التشدد وأساليب القتال يتجاوز تلك التي غدت مألوفة عند "القاعدة" وغيرها من التنظيمات الجهادية، وأن هذا النهج الذي يؤمنون به هو الطريق الأنجع للوصول إلى دولة الخلافة. وقد سيطر هذا النهج في النهاية، وخط أتباعه طريقاً جديدة تميزه عن "القاعدة الأم"، وأطلق على نفسه اسم "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، أو اختصارا "داعش" التي تتكون من أول حروف اسم الدولة الجديدة. ورغم التطرف الذي كان ينتهجه تنظيم "القاعدة"، فإن هذا التنظيم بقيادة أيمن الظواهري في أفغانستان، أصبح يتهم أساليب "داعش" بالوحشية وعدم الإنسانية.
ونعتقد أن كلمة "وحشية" هي أقل بكثير من الوصف الحقيقي لداعش. ففي شرائع السماء والأرض، هناك حقوق للأسير لا يُقبل تخطيها. وهذا ما شهده تاريخ الاسلام حتى في أحلك الفترات التي مر فيها. ومع ذلك، فالأسير عند "داعش" يتم قتله عن طريق الحرق أو الذبح أو الصلب أو التقطيع إلى أجزاء، باسم دين المسلمين!
والتساؤلات الآن: كيف استطاع تنظيم "داعش" أن ينمو ويكبر، وتكون لديه هذه القوة والتسليح والتجهيزات والأعداد الكبيرة من المقاتلين، وبما يمكنه من احتلال أراضٍ واسعة من دول، وهزيمة جيوش؟ أين كانت عيون الأجهزة الاستخباراتية العربية والعالمية المنتشرة على أراضي العراق من هذا التنظيم؟ أين كانت وكالة الـ CIA وأقمارها التجسسية التي تسبح في السماء ولا تغمض لها عين؟ هل عرفت أميركا وكليماتها في أوروبا والمنطقة بقيام التنظيم ونموّه وسكتت، تقديراً منها أن هذا التنظيم سيوجه قدراته ضد إيران ونفوذها في العراق، وحماية أهل السُنّة؟ هل ساعدته في قيامه ورعته، لينطلق من العراق إلى سورية والتخلص من نظام الأسد تحت ذريعة عدم إقامته للديمقراطية، وبالتالي قطع الشرايين التي تمد حزب الله بالحياة؟ فإذا كان الأمر كذلك، فلماذا أنشأت أميركا الحلف الدولي لمحاربة "داعش"؟ هل هذه الأميركا عاجزة بقدراتها ويدها الطويلة عن الإجهاز على التنظيم؟ ثم، لماذا تراخت أميركا وتحالفها الدولي عن مواصلة ضرب "داعش" وهو يتوسع في احتلال أراض في العراق وسورية؟
ليس مقنعاً أن لا تعرف أميركا عن قيام تنظيم "داعش" ونموه؛ وليس مقنعاً أن لا تكون أميركا، بوسائلها المختلفة، وراء تسليح هذا التنظيم؛ سواء بتسهيل هذا التسليح أو السكوت عليه، فقد كان التنظيم معشوقاً لهذه الأميركا عندما كان موظفاً لذبح جنود الدولة السورية، بحجة غياب حكم ديمقراطي فيها! فأميركا هي الأم التي أنجبت نظرية الفوضى الخلاقة لإعادة رسم المنطقة العربية، وتمزيق ما مزقته اتفاقية "سايكس-بيكو". وعندما انفجرت الشعوب العربية مع عاصفة "الربيع العربي"، عملت أميركا جاهدة على أن تنحرف ثورات الشعوب عن مسارها، وكانت أنجع وسائلها في ذلك، قيام حروب أهلية في دول تلك الثورات، ليقول الرئيس الأميركي باراك أوباما بعد ذلك: لقد تحول "الربيع العربي" إلى شتاء عربي. يضاف إلى هذا، أن تراخي أميركا الواضح في ضرب تنظيم "داعش"، يعني أنها أوكلت للتنظيم إلباس الإسلام أبشع صورة يمكن أن يتخيلها العقل البشري، عندما يتم ذبح الإنسان وحرقه حياً وصلبه باسم شرع المسلمين، وكان آخر هذا الشذوذ، تفويض الصبيان من منظمة "أشبال داعش" بعملية الذبح لضباط الجيش السوري.
ولا غرابة عند أميركا في كل ذلك، أليست هي التي حشدت بقرار أصدره رئيسها، أكبر جيش إسلامي مغسول الدماغ ليتصدى للسوفييت في أفغانستان، تحت ذريعة محاربة الكفار وإقامة دولة الخلافة، والعودة إلى ذات النمط المعيشي والحياتي الذي كان سائداً أيام أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب؟! هل كان أي عاقل يتصور أن بمقدور أميركا إقناع "القاعدة" و"طالبان" أن الإسلام يقتضي إلغاء مفاعيل أربعة عشر قرناً من الزمان، ليأتي من يخلفهم باسم تنظيم "داعش" ويطرح ذات المفاهيم؟ ثم هل أبو بكر البغدادي ومن معه، هم في مكان صحابة رسول الله؟ وهل كان الصحابة يصلبون من يخالفهم الرأي أو يحرقونه أو يقطعونه إرباً رغم أنه مسلم ينطق بالشهادتين؟ ولعل المفارقة هنا، أننا وصلنا إلى مرحلة أصبح فيها سلاطين الاستبداد من مخلفات "سايكس-بيكو" أخف وطأة وأكثر رحمة من تنظيم "داعش"؛ إذ من يخالف هؤلاء السلاطين الرأي يودع في السجن ويظل له أمل في الحياة، في حين أن جزّ الرقاب عند "داعش" أسهل من شربة الماء.