خِطاب "حاراتي"

في الثقافة العربية، يربط الناس بشكل جائر ومتعسّف، بين مؤسسات وممتلكات الدولة وبين الحاكم أو النظام، ومن هنا جاءت فكرة تكسير وتحطيم المحلات العامَّة ورشقها بالحجارة في المظاهرات، وكأنَّها شبابيك بيت الحاكم !
يبدو ذلك مفهوماً (لا أقصد صحيحاً ) حين نفهم ضيق المساحة التي كان المواطن العربي يستطيع التحرك فيها للتعبير عن رأيه، وأنَّ السبيل الوحيد للتنفيس أمامه كان الشارع، والشيء الوحيد الذي تطاله يده هو إشارة ضوئية أو يافطة مستشفى عموميّ !
لكنَّ هذا الفهم القاصر في التعامل مع مؤسسات ومنجزات البلد، أي بلد، صنع شرخاً بين المواطنين أنفسهم وبين ما يفترض أن يكون مكتسبات لهم، وليست أهدافاً يسلطون عليها غضبهم وتدميرهم، وأفضى أيضاً الى خطاب سلبي، يقلّل دائماً من انجازات الدولة ( أية دولة ) الصحية أو التعليمية أو الاقتصادية، كأنَّما نكاية في الحاكم، وهو خطاب مهزوم ومحبط ويشيع الطاقة السلبية في الناس.
هذا الخطاب، المنتشر عربياً على أوسع نطاق، محوره الأساس ترويج فكرة أن كل مؤسسات الدولة العربية فاشلة، وكل مشاريعها فاسدة، وكل بناها التحتية والاقتصادية والعلمية هي أمور تدعو للاستخفاف و”التنكيت” ولن تنجح أبداً !
فيما يجلس أصحاب هذا الخطاب العاطلون عن العمل على المقاهي يدخنون سجائر استدانوا ثمنها، ويلعبون بأصابع رجليهم، ويضعون استراتيجيات عظمى كان على المؤسسات أن تنتهجها، ولا يتورع الواحد منهم عن الحديث في أدق تفاصيل حفر قناة السويس، أو عدد لمبات الكهرباء في برج خليفة، أو في قضايا سياسية وأمنية خطيرة، وكأنَّه كان مشاركاً في الإعداد ومطلعاً على التفاصيل، رغم انه سمع عن الأمر غالباً من ابن خالته الخيَّاط !
هذا النموذج من الناس، الذي يقلّل من شأن دولة او شعب كامل، ومنجزاته كاملة، لمجرد ان له موقفاً من حاكم هذه الدولة أو تلك، أو يحاكم مشروعاً ضخماً، بخطاب دوغمائي أو "حاراتي” لأن هذه الدولة أو تلك لم تمنحه تأشيرة عمل أو فيزا زيارة، هو قريب أيضاً من الخطاب القديم (اليساري غالباً) الذي يعتبر النفط شتيمة، فيصف دولة لا تروقه بأنها : مشيخة نفطية !
وأنا أفهم خطاب العاطلين عن العمل الذين يعتقدون أن لهم حصة في النفط العربي انسرقت منهم، وهم مشغولون على المقهى، والذين ما زالوا مُصرّين أن الكثير من أهل النفط بدو ورعيان غنم، فيما سيصل هؤلاء البدو قريبا الى الفضاء على متن مركبة فضائية عملاقة، وهو ما يزال يلعب بأصابع رجليه !
أفهم الاعتراض على ثقافة استهلاكية ما كانت سائدة زمان في بعض الدول الخليجية، ولكن لا أعرف كيف صارت كلمة "نفط” نفسها شتيمة، ثم إن السؤال : ماذا فعلتَ أنت في الخمسين سنة الماضية التي بنت فيها هذه الدول أعلى أبراج العالم وأضخم اقتصاداته الإقليمية ؟!
كثير من المفاهيم والتعريفات التي شكَّلت ثقافة السبعينات والثمانينات تحتاج لإعادة نظر، والكسالى النائمون على جنوبهم الذين يروّجون خطاب الإحباط والاستهانة بالآخر عليهم أن يقدموا لنا كشف حساب بمنجزهم، وماذا قدموا لمجتمعاتهم غير الخطاب الانشائي الممطوط المثير للشفقة !
مع ملاحظة أن وصف "خطاب” لهكذا "كلام” هو وصف فضفاض يثقف حالةً غوغائية متدنية جداً، بلا مقومات أو " بُنية خطاب” !