سقوط العثمانيين: مقاربات ودروس

يقدم يوجين روغان أستاذ تاريخ الشرق الأوسط الحديث في جامعة أكسفورد ومدير مركز دراسات الشرق الأوسط في كلية سانت أنتونيز، مقاربة جديدة ومثيرة لسقوط العثمانيين في كتابه الجديد والضخم والتوثيقي «سقوط العثمانيين: الحرب الكبرى في الشرق الأوسط 1914-1920». يأتي كتاب روغان في قلب سيل شبه مفاجئ من الكتب والأبحاث حول الدولة العثمانية وسيرورات انحلالها في القرنين التاسع عشر والعشرين. ثمة جاذبية خاصة في الحقب المفصلية للإمبراطوريات، خصوصاً لحظات الأفول والسقوط، تظل تغوي الباحثين والأكاديميين بالعودة إليها. وإغراء البحث في تلك الحقبة التاريخية الخاصة بانهيار الإمبراطورية العثمانية يأتي في هذا السياق، ولا يزال يتمتع بقوة كبيرة وملفتة، وهي الحقبة التي شهدت أيضاً بدايات انحسار المشاريع الإمبريالية الأوسع في العالم، البريطانية والفرنسية.

 

 

إنه العقد الأول من القرن العشرين الذي ازدحم بأحداث مهولة وحروب أكثر هولاً، وأسس للعالم وتقسيماته ودوله وحدوده كما نعرفها اليوم. مع انهيار العثمانيين انفتحت شهية الاستعمار الأوروبي، الذي حل فوراً في المناطق التي اندحرت منها جيوش الآستانة، ثم ما لبث أن قسم تلك المناطق تبعاً لمصالح المتروبول الغربي وتوافقاته، ضارباً بعرض الاستسخاف رغبات ومطالبات وأحلام الشعوب والنخب التي كانت في أكثر من موقع تحالفت مع الأوروبيين ضد الاستبداد العثماني. لكن هل بقيت ثمة جوانب لم يتم البحث فيها من السؤال التاريخي الكبير: كيف واصلت الإمبراطورية العثمانية مسيرة الضعف منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر وانتهت إلى السقوط المحتم؟ هذا ما يواجهه روغان في كتابه ويحاول ناجحاً تقديم ما هو جديد.

 

 

روغان الذي قدم إلى المكتبة الغربية قبل بضع سنوات كتاباً مرجعياً وكلاسيكياً كبيراً صار من أهم الكتب والأكثر مبيعاً، وعنوانه «العرب»، يقدم اليوم كتابه الجديد من منظور مشابه، وهو النظر إلى الحرب الأولى وتحليلها وانهيار الدولة العثمانية من الضفة الأخرى للأحداث، أي الضفة الشرق أوسطية وليس الغربية. يقول روغان إن الأدبيات الغربية عن الحرب الأولى وكذلك عن أفول الإمبراطورية العثمانية تنطلق من رؤية الأشياء والأحداث من زاوية غربية بحتة، فمثلاً تُختصر معركة غاليبولي ومعارك الدردنيل الشهيرة في الجانب الغربي لتركيا في سنوات 1914 و1915 بين دول الحلفاء والأتراك، بأنها «معركة تشرشل»، وتُختصر الثورة العربية الكبرى ضد الأتراك في المشرق بكونها «ثورة لورانس العرب»، وكذا تختصر معارك بغداد والقدس وسقوطها بأيدي البريطانيين بنسبة كل منها إلى القائد العسكري الذي دخلها، فيصبح السقوط المدوي للقدس ودلائله ومعانيه التاريخية مجرد «انتصار اللنبي».

 

 

على ذلك، فإن ما يقوم به روغان في هذا المقاربة التأريخية القيمة، هو نقل كراسات البحث والتحليل والتأريخ والتوثيق إلى ما خلف خطوط النار وعلى الجبهة الشرقية، وينظر إلى الأحداث والحرب من هناك وليس من الجبهة الغربية. في مقدمة الكتاب يذكر لنا حادثة من تاريخ عائلته توجز ببلاغة ما يخلفه الركون إلى الأدبيات الغربية في دراسة الحرب الكبرى وموقع الشرق الأوسط منها، وكذا الانهيار الموازي للعثمانيين خلالها. فعندما زار مع جزء من عائلته مقابر البريطانيين الذين سقطوا في واحدة من معارك الدردنيل الشهيرة، لزيارة أحد أجداده الذين ماتوا في تلك الحرب، صدم لمعرفته أن تلك المعركة وحدها تسببت بسقوط أربعة عشر ألف جندي عثماني. يقول روغان إن ذلك العدد هو أضعاف أضعاف الـ3400 جندي بريطاني الذين سقطوا في المعركة نفسها، والتي أشبعت بحثاً وتأريخاً وتأسياً بسبب قسوتها وكثرة من مات فيها من البريطانيين. ويضيف أنه على رغم تخصصه في الموضوع والكتب الكثيرة التي قرأها عن الحرب الأولى والعثمانيين والحلفاء، خصوصاً حروب الدردنيل، فإنه لم يقرأ عن سقوط 14 ألف جندي تركي، لأن التأريخ الغربي للحرب أهملهم. وهكذا، فإن هناك تاريخاً شبه جديد وأحداثاً لم تلق الاهتمام والبحث المطلوب وقعت على الجانب الآخر من الحرب، الجانب الشرق أوسطي والعربي، لكن تم تغييبها أو إهمالها في أحسن تقدير.

 

 

تمثل الحرب الأولى الحرب الكونية الأولى التي انخرطت فيها أمم وجيوش وحكومات لا حصر لها. وعلى رغم أن جيوشاً من البريطانيين، والفرنسيين، والنيوزيلانديين والآسيويين المجندين في جيوش الحلفاء، وكذا الأفارقة، من سنغاليين وماليين وغيرهم، حاربوا في مناطق الشرق الأوسط، فإن المنظور الشرق أوسطي والعربي لهذه الحرب غائب كلياً. ويأمل روغان أن يعيد الاعتبار إلى حضور ومساهمة ورؤية وآراء الناس الذين تم تغييبهم في تلك الحرب.

 

 

يضع روغان إصبعه على عصب حي ومتوتر في التأريخ العربي الحديث، وهو موقع العرب ودورهم في الحرب الأولى، وهم الذين كانت أراضيهم من العراق وسورية الكبرى وفلسطين إلى شمال أفريقيا ومصر أحد أهم ميادين تلك الحرب. لا نملك تأريخاً عربياً خاصاً بها، ولا نعرف أرشيفات محترمة توثق لما حدث، ولا حتى لقوافل القتلى، سواء مدنيين أم مُجندين في هذا الجيش أو ذاك. نعرف في شكل عمومي وغامض مثلاً أن الجيش التركي كان جند عشرات الآلاف من العرب، خصوصاً من بلاد الشام، وأرسلهم للتدريب ثم للقتال في جبهات بعيدة عدة، مثل البلقان وشرق الأناضول ومعارك الدردنيل وغيرها. لكننا لا نعرف على وجه الدقة والتفصيل مصائر أولئك المجندين والنهايات التي آلوا إليها، وكم أعداد القتلى منهم، أو من عاد منهم إلى بلاده، وما هي قصته.

 

 

تتوزع مسؤولية غياب الجهد البحثي والتأريخي، فمن ناحية لا يزال بعض الحكومات يمسك بتلابيب أرشيفاته الرسمية ويقفل بالشمع الأحمر على أحداث مر على وقوعها قرن من الزمان أو عقود كثيرة. وهذا في حد ذاته قصور نظر هائل يناظر من يشدد قفل الباب على يده عوض أن يفتحه. صحيح أن لا أحد يعلم موثوقية وأهمية ما ينطوي عليه كثير من الأرشيفات الرسمية العربية والتركية والإيرانية، لكن التركية منها على وجه التحديد بالغة الأهمية، سيما ما خص منها الحرب الأولى وجبهات الحرب العربية التي خيضت. لكن من ناحية ثانية هناك تقصير أيضاً في جانب الباحثين والمؤرخين العرب المحدثين الذين لم ينتبهوا إلى أهمية تقديم «رؤية من الداخل» لتلك الحقبة العاصفة من القرن العشرين والتي قلبت شكل وجودهم السياسي ومستقبله في المنطقة. هذا على رغم أن أجدادهم من أمثال شكيب أرسلان، كانوا انتبهوا باكراً إلى أهمية تلك الحرب وما ستجلبه على العرب.

 

 

لكن علينا أن نقول إن بدايات انحلال الإمبراطورية العثمانية وأفولها كانت بدأت باكراً جداً وربما في أواخر القرن السادس عشر وبدايات القرن السابع عشر، بالتوازي تقريباً مع النهوض الأوروبي الحاد، العلمي والفكري، وللمفارقة بعد حصار فيينا. هل لنا أن نؤرخ لذلك الانحلال بوصول السلطان العثماني عثمان الثالث إلى الحكم عندما كان في السابعة والخمسين، وكان قضى من عمره واحداً وخمسين عاماً وهو في «الحرملك» يعيش بين النساء والحريم ومحظور عليه الخروج من هناك إلى الحياة العامة.

 

 

في حقبة ما بعد السلطان سليمان القانوني، آخر الحقب الذهبية للعثمانيين، انتشرت اغتيالات وانقلابات القصر، وخوف كل سلطان من أشقائه، أو حتى أبنائه، إلى درجة قتل كل أولئك دفعة واحدة. ثم تم التوصل إلى حل يُحجَر بموجبه على كل يمكن أن يكون ذي خطر على السلطان القائم، ويوضع في «الحرملك» لسنوات طويلة. وهكذا، عندما تطورت ظروف خاصة اضطرت أصحاب القرار إلى جلب عثمان من «الحرملك» لتسلم قيادة السلطنة، كان هذا السلطان جاهلاً بكل ما له علاقة بالعالم الخارجي على الإطلاق. في تلك الأثناء، كان ملوك مستنيرون يحكمون أوروبا، مثل فريدريك الكبير في بوتسدام، ويقودون القارة إلى النهوض، فيما عثمان الثالث بدأ مسيرة الانحطاط بالعثمانيين.