اللغة الأمّ بيننا وبينهم!

لو حاولنا أن نتخيّل مثقفاً فرنسيّاً أو إنجليزياً أو ألمانيّاً يتقن لغة أخرى غير لغته الأمّ قراءة وكتابة ومحادثة بينما لا يتقن لغته الأمّ، هل نراه يجد فرصة عمل في مواقع متقدّمة في بلده؟! حتّى لو كان العمل المطلوب يتطلّب معرفة تلك اللغة الثانية ولا يتطلّب إجادة لغته الأمّ؟! الجواب هو أنه لا يمكنه ذلك قطعا، لأنّ خطأً لغوياً واحداً في مخاطبة رسميّة صادرة عنه قد يطيح به.

ولو تخيّلنا مثقفاً فرنسيّاً أو إنجليزياً أو ألمانياً يفضّل في المحافل الرسميّة أن يتحدّث بغير لغته الأمّ، هل تظنون أنّه يحظى باحترام أبناء قومه وترحيبهم بهذا الأمر؟! الجواب قطعاً لا.
ولو نظرنا في مقابل ذلك إلى الجانب العربي، وتساءلنا لو أنّ عربيّاً لا يتقن شيئاً من العربيّة بينما يتقن اللغة الإنجليزية أو الفرنسيّة أو الألمانيّة، هل يفيده ذلك في البحث عن وظيفة رفيعة؟! الجواب هو نعم قطعاً، بل إنّ إجادته لغة غير لغته العربيّة سترفع من مكانته درجات وتقدّمه على غيره وتمنحه الأولوية عليهم سواءً أتقن لغته الأمّ أم لم يتقن منها حرفاً واحداً. بل ربّما كان لمن لا يعرف العربيّة ولا يحترمها أولوية على من يعرفها متى استويا في معرفة لغة أجنبيّة وإجادتها.
ولو تخيّلنا شخصاً عربيّاً يفضل في المحافل الرسميّة أن يتحدث بالإنجليزيّة أو الفرنسيّة أو الألمانية أو يكثر الرطانة بها، هل نراه يحظى باحترام أبناء قومه وترحيبهم بهذا الأمر؟! الجواب هو نعم قطعاً، بل إنّهم يضعونه فوق رؤوسهم إجلالاً وتكريماً.
ويبقى السؤالُ ما سرّ هذا الاختلاف الجذري بين العربيّ والغربي في مسألة الاعتزاز باللغة الأمّ والانحياز لها وعدم تفضيل غيرها عليها؟! أهو شعور العربيّ بالدونيّة أمام ذلك الغربيّ؟! وانبهاره بكلّ ما هو غربيّ لغة وثقافة وحضارة؟! أم هي محاولة العربيّ التظاهر أمام قومه بأنّه يعرف ما لا يعرفه غيره من لغة الأقوام الآخرين وثقافاتهم؟! أم هو عجز العربيّ عن تعلّم لغته الأمّ ومعرفة خصائصها وأسرارها وجماليّاتها؟!
إنني أرى في استخدام لغة قومٍ آخرين بديلاً عن اللغة الأمّ وتبجيل من يستخدمون اللغات الأجنبيّة وتقديمهم على من يتقنون لغتهم الأمّ، أرى في ذلك تعبيراً عن الشعور بالنقص والهزيمة النفسية أمام الآخر الغربيّ، وممّا يؤسف له أنّ الذين يعبّرون عن هذه الهزيمة ويشعرون بها ويعيشون تحت وطأتها هم الذين ترنو عيون أبناء مجتمعهم لهم لتجاوز الهزيمة وآثارها من أساتذة جامعيين وأدباء ومفكرين؟! فكيف لفاقد الشيء أن يعطيه لغيره؟!
ولئن كنت لاحظت مثل هذه الظاهرة السلبيّة في كثير من دول العالم الإسلامي التي أتيح لي زيارتها إلاّ أنّها في الدول العربيّة أكثر انتشاراً وتعمّقاً، وأكثر عقوقاً للّغة الأمّ وتنكّراً لها.
salahjarrar@hotmail.com