أمي


عندما يضيق الخاطر ويصبح الحديث قاب قوسين أو أدنى أحتاجك ، عندما يخونني الحرف وتتمرد الكلمات وأفقد القدرة على الكتابة أنقاد إليك يا ضاد العربية والحياة، عندما تضيق الدنيا علي بما رحبت أهرب إلى حضنك الوهمي وألوذ بسراب وجهك يا أمي.

أريد أن أكتب عن أمي فهل تسمحون لي أن أكتب عن من كانت نوارة العمر والدار وعن نخلة باسقة ، حملتني كآخرعنقود ثم قررت أن تصعد إلى السماء ولا تحودب رأسها كباقي الشجر عندما يموت.

أتذكر كيف كانت في آخر أيامها وكيف كانت مثل شمع المطاعم تضيئ المكان على حساب احتراقها وصراعها مع الذوبان ، وكيف كنت أدعو الله أن تقاوم وأن تبقى نوارة الدار والعمر والدرب، فمن سيلملم أجزائي المتناثرة ويجمعها في حضن واحد بعدها ، من سيسمعني حتى في صمتي وسيحلي مرارة الحياة بعدها وهي سكر الحياة .

ولكنه الموت الذي لا يسمع الرجاء ولا يرأف لطفل ما زال يرضع من عينيك طعما لذيذا للحياة ولم يفطم بعد على الفراق ، خطفك على عجل وخطف معك الربيع بزهره وفله وياسمينه وحتى نور السماء.

أريد أن أكتب عن محراب الدار وسيدة الابتهال ، عنك يا أمي .. وعن نظرات الحب والخوف التي كنت اتوضأ بهما كل ليلة قبل النوم ، عن معوذات تقرأيها كلما اصطنعت الخوف كي أهرب إلى حضنك الدافئ ،وعن قصص ما قبل النوم التي انهكتكي بها كل ليلة.

أريد ان أكتب عنك يا زيت القناديل ، يا جنة الدنيا بقوطفك الدانيات وأنهار الحنان التي تجري من فوقك ومن تحتك ومن بين وبين ، يا أول الحضارات وآخرها ، يا سيدة الكون يا شمس الدنيا وظلها وقمرها ، يا رائحة الجنة ، يا وطن الأوطان وطعم السعادة ويا أول الخطا على دروب الحب وقبلة الخير كله.

أريد أن اكتب كيف أني بعدك لست سوى حطام من حطام ومركب مثقوب وتائه تتخبطه الأمواج وتخونه كل المراسي والموانئ ، كرسالة تحمل سرا حملتها الريح إلى اللا مكان فتوهتها في صحراء التيه وضاع السر، سجينا بلا أسوار وبلا قيود وبلا مفتاح ، هامشا غير مقروء في أسفل الكلام.

أمي يا نبض القلب ويا رمش العين ويا كل الصبر ، لو أن الموت يقايض بالدم أو بالحرف أو بالنظر لقايضناه ، لو أن الموت يساوم لساومته بنفسي وعمري وروحي ، فأنا لنفسي أما أنت ... فأنت فرح السماء وسجادة الصلاة.


المحامي خلدون محمد الرواشدة
Khaldon00f@yahoo.com