جريمة في البترا!

بقدر فرحتنا برؤية البترا مع أبنائنا للمرة الأولى في حياتهم (والثانية في حياتنا)، بقدر ما كان الحزن والألم العميقان اللذان تركتهما تلك الزيارة في نفوسنا، مع أصدقائنا المغتربين في الخارج! وذلك لحجم الإهمال والتجاهل والنكران الذي تمارسه الحكومات بحق هذه الهبة التاريخية والفنية العظيمة!
الملاحظات النقدية مكررة ومجترّة، وربما لا نأتي بجديد عند المرور على ما نقصده بالجريمة. فالبنية التحتية حول المدينة بدائية، والمجتمع المحلي لم يتم العمل على تطويره أبداً ليستضيف البترا وزوارها. والمرافق في المدينة الوردية التاريخية شبه معدومة، فضلاً عن الروث والفضلات. مع عدم وجود قاعدة معلومات عميقة في المكان، كحدّ أدنى للتعريف بالمواقع الهائلة الموجودة فيه، وغياب الرقابة وثقافة السياحة، وعدم وجود تنظيم حقيقي. باختصار، يمكن القول بضمير مرتاح إنّها خسارة كبيرة بأن نكون نحن المؤتمنين على البترا!
هناك جريمة كبرى تُرتكب بحق هذه المدينة، التي من الممكن، بل المفروض أن تكون من أهم مصادر الدخل السياحي في الأردن. لكن الاستهتار الحكومي، وعدم أهلية المؤسسات المحلية، وعدم قدرتها على بناء رؤية تنموية متكاملة، كل ذلك يجعل من البترا قصة مريرة لدينا، من دون أن يرف لأصحاب القرار جفن؛ فيكتفون بالتعامل مع الأمر وكأنّ "التخلف السياحي" الذي نحن فيه، عبارة عن "قضاء وقدر"!
ألم يزر رئيس الوزراء د. عبدالله النسور، البترا قبل قرابة عامين، وأعرب عن حزنه لحجم الفشل الإداري والسياحي هناك؛ فماذا تغيّر؟ لا شيء. بل هناك تراجع هائل في أعداد السياح الذين يأتون إليها من الخارج، بدلاً من أن تكون هذه المدينة معلماً من معالم الأردن السياحية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية!
لا يوجد دعم مالي؟! هذه حجة واهية. حسناً، اصرفوا مما تبقى من المنحة الخليجية على البترا، فهي تستحق. قدّموا رؤية متكاملة، وهناك مؤسسات دولية كثيرة يمكن أن تساهم في المشروع الوطني المطلوب للبترا. أعطوا مفاتيح هذه الخطة لشخصيات على مستوى علمي وإداري حقيقي، واستعينوا بخبراء غربيين في هذا المجال!
البترا قصة حضارة وتاريخ وفن معماري هائل، قدّمت نموذجاً حضارياً فريداً. لكننا نقدّم اليوم، في احتضاننا لهذه المدينة، نموذجاً أردنياً معاكساً تماماً، سامحوني إن قلت إنّه متخلف وبدائي وفاشل ومخجل..! لماذا هذه الأوصاف القاسية؟ لأننا زرنا مدناً وأماكن في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، وحتى في دول عربية أخرى، أقل قيمة تاريخياً وفنياً وثقافياً واقتصادياً ورمزياً من البترا، لكنّ الصناعة الخادمة لها حوّلتها إلى مزارات هائلة، بينما نحن نهين هذه المدينة ونسيء لها، حتى إن تقرير منظمة "اليونسكو" (2011) حذّر من اختفاء بعض الآثار المهمة في هذه المدينة.
ليست البترا وحدها بكل تأكيد، لكنّها تلخّص الحكاية، وهي أحد أهم فصولها. فالأردن مملكة أثرية تاريخية مذهلة، تشكل ثروة طبيعية أهم بكثير من المعادن والنفط وغيرها. ويمكن إعادة هيكلة نسبة كبيرة من الاقتصاد حول هذه القيمة السياحية، مع التذكير بأنّ هناك توقعات وتقارير علمية تؤكّد أنّ النسبة الكبرى من الآثار في الأردن لم تكتشف بعد!
ما أقامته الدولة من مؤسسات ولجان، بقيت هياكل بلا مضامين حقيقية. وما يزال المسؤولون لدينا يرون الأردن فقط، فقط، فقط، وكأنّه عمان الغربية، أما ما هو خارج هذه الدائرة الجغرافية الصغيرة، فمسألة ثانوية وغير مهمة، بالرغم من أنّ هذه الثروات الهائلة الطبيعية من جرش إلى البترا، مروراً بأم قيس وعجلون والشوبك والأغوار، يمكن أن تشكل نقطة التميّز في النموذج الأردني المفقود؛ فنحن لم نكتشف هويتنا بعد، أو لم نبنها برؤية فلسفية عميقة!
وللحديث بقية..