في اليونان.. ما الذي يحدث ؟

حينما صوّت شعب اليونان في 5/7/2015 بـ (لا) كبيرة مدوية ضد أي اتفاق مهين يمكن أن تفرضه على حكومته مجموعة الترويكا أي ثلاثية الجهات الدائنة وهي البنك المركزي الاوروبي وصندوق النقد الدولي والمفوضية الاوروبية فقد كان ذلك كافياً لان يفتح عيون الناس في جميع انحاء العالم على النوايا المبيتة لايقاع اليونان أكثر فأكثر في فخ اسمه الـ Bailout أي خطة الانقاذ التي تسمح (!) له بالحصول على قرض جديد بمبلغ 86 مليار يورو لا لكي ينعش بها اقتصاده بمشاريع انتاجية مدرة للدخل بل لتمكينه من الاستمرار في سداد أقساط القروض السابقة بالاضافة الى اذعانه لخطة التقشف التي تقضي بتخفيض الرواتب والاجور والتقاعد وفرض ضرائب جديدة على ذوي الدخل المحدود وليس على اصحاب البنوك والشركات الغنية وتتضمن رفع الدعم عن بعض الخدمات والسلع الأساسية وتقليص ميزانيات الصحة والتعليم والتوسع في خصخصة البنوك الوطنية والمؤسسات العامة كالمياه والكهرباء والبريد والاتصالات والنقل والمطارات والموانئ (واليونان بلد رائد في الشحن البحري في العالم)، ولا مانع من بيع بعض الجزر السياحية! كما كان هذا التصويت الشجاع كافيا لأن تعلن كثير من القوى السياسية في العالم اصطفافها الصريح الى جانب الشعب اليوناني في معركته الاقتصادية التي فرضها عليه المقرضون كما فرضوها من قبل على شعوب عديدة في تاريخنا المعاصر أدى ببعضها الى خسران سيادته واستقلاله وفقدان كل ثرواته، والامثلة كثيرة بدءاً من مصر التي غرقت في ديون فتح قناة السويس واستسلمت لاحتلال عسكري كامل من قبل بريطانيا عام 1882 مروراً بدول في افريقيا وآسيا ولا ننسى ما فعلته الولايات المتحدة وشركاتها في نهب دول اميركا اللاتينية (تذكّروا كتاب إدواردو غاليانو (The Open Veins of Latin America، حتى وصل الدور الآن الى اوروبا نفسها (دول الجنوب !) فبعد اليونان ربما تصل نيران المعركة الى اسبانيا والبرتغال وايطاليا.. وايرلندا !
وعلى ما يحدث الآن في اليونان علق Yanis Varoufakis وزير ماليتها الشجاع الذي استقال بسبب اعتراضه من حيث المبدأ على أي صفقة مع الترويكا قائلا لراديو ABC الوطني (استراليا) 14/ 7/ 2015 إنها سوف تكون بمثابة انقلاب جديد على الديمقراطية يشبه الانقلاب العسكري عام 1967 الذي تم بالتعاون مع قوى اجنبية وكان بواسطة الدبابات لكنه هذه المرة بواسطة البنوك المتعاونة مع قوى اجنبية، واستخدم ساخراً تعبير Banks & Tanks ! واما وزير الطاقة اليوناني باناغيوتس لافازانس Panagiotis Lafazanis للـ BBC فقد قال إن المانيا قد عاملت اليونان في هذه الازمة وكأنها احدى مستعمراتها وذلك كرد فعل على تهجمات ظالمة في الاعلام الالماني كان من ابرزها ما قالته المستشارة انجيلا ميركل حين عرفت بنتائج التصويت اليوناني: لا نقبل أن يدفع العمال الألمان ثمن رفاهية العمال اليونان وهدرهم للاموال التي اقترضتها حكومتهم (كذا) !.
أما كريستين لاغارد Christine Lagarde رئيسة صندوق النقد الدولي فقد علقت صحيفة الديلي تلغراف البريطانية في 18/ تموز/ 2015 على هجومها المهين على اليونانيين ومطالبتهم بدفع الضرائب المستحقة عليهم كي يسددوا الديون، بأن لاغارد نفسها لا تدفع ضرائب على راتبها الكبير الذي يبلغ 467 ألف دولار سنويا عدا العلاوات البالغة 83 ألفاً اي اكثر من راتب كل من الرئيس اوباما أو ديفد كاميرون اللذين يدفعان ضرائب عليهما !
والغريب ان بعض الخبراء الاقتصاديين في صندوق النقد الدولي (دون ذكر اسمائهم) أفادوا بأن اجراءات التقشف قد ثبت خطؤها، فالاقتصاد اليوناني تدهور بسببها لذلك زادت الديون على كاهل الشعب. وفي كل مرة يتم فرضها تزداد صعوبة التسديد !
لكن المحزن أن حكومة حزب سيريزا Syriza اليونانية اليسارية برئاسة الكسيس تسيبراس Alexis Tsipras رضخت آخر الأمر ووافقت في 13/7/2015 على صفقة الانقاذ التي قدمتها الترويكا بعد مفاوضات عسيرة حتى أن الكاتب الصحفي الاميركي المعروف Paul Craig Roberts (مساعد وزير الخزانة الاميركي للسياسة الاقتصادية والمحرر المشارك لـ Wall Street Journal/ سابقاً) شن في الـ ICH بتاريخ 15/7/2015 هجوما شديداً على الاتفاق ووصفه بانه سمح للـ 1% (الشركات والبنوك) بنهب ثروات البلاد وكل شيء يملكه اليونانيون، وان انهيار حزب سيريزا سوف يبعث برسالة خطيرة تقول إن سياسات الرعاية الاجتماعية مهددة بالتفكك في كل دول الغرب، وكان ينبغي على تسيبراس أن يقطع علاقته بالـ Euro Zone بدل الاستسلام لابتزاز المقرضين وأن تعلق اليونان دفع اقساط ديونها وأن تشق عصا الطاعة فتتمرد على معاهدات الاتحاد الاوروبي..
وأخيراً تأتي شهادة العالم الألماني الذي يحظى باحترام كبير جيرغن هابرماس Jurgen Habermas الاستاذ الفخري للفلسفة في جامعة جوهان وولفغانع غوتيه في فرانكفورت في مقابلة مع صحيفة الغارديان في 16/7/2015: إن الـ Bailout الصفقة سوف تثبط همة الشعب اليوناني المنهك وتقتل فيه روح العمل والنمو وتتعارض مع المبادئ الديمقراطية للاتحاد الاوروبي لحساب افساح المجال للاحزاب الفاشية والعنصرية، كما أنها تهين الحكومة اليونانية بفرض الخصخصة عليها مما لا يمكن فهمه الا على أنه أقسى عقاب لحكومة يسارية)) وتحدث عن الحكومة الالمانية فقال أنها تريد أن تقوم بدور الضابط المهيمن على اوروبا وفي ذلك مقامرة بكل ما انجزته المانيا في مجال الديمقراطية على مدى نصف قرن.
وبعد.. فاليونان، مثلها مثل سائر الدول التي تضطرها الظروف احيانا للاقتراض، ليست هي المسؤولة الوحيدة عن هذه الظروف وليست شعوبها هي التي تبذر القروض أو تسرف في انفاقها بل حكوماتها هي التي تفعل ذلك بالتواطؤ مع اصحاب المصالح واحيانا بتشجيع من المقرضين، مثلاً في شراء مالا يلزم من اجل التنمية قط كصفقة الغواصات الحربية التي عقدتها اليونان مع المانيا قبل بضع سنوات بمبالغ كبيرة وانفضح فيها فساد وزير المالية اليوناني الذي يقبع الآن في السجن بسبب رشوته بمبلغ كبير من قبل شركة الالمانيه..
واليونان ايضاً، كيف وصلت ارقام ديونها الى اكثر من 400 مليار يورو لولا أن هناك اساليب جهنمية تتتحايل بها البنوك الدولية على القوانين المالية الوطنية التي تضبط فوائد البنوك المحلية حتى لا يعود اليها عصر الربا !
وأخيراً.. هل يئست الجماهير اليونانية بعد ما حدث ؟ وها هي تمر في مرحلة الصدمة والمهانة والحيرة وعدم التصديق ؟ أم أن روح الأمل التي نهضت من تحت الرماد يوم 5/7/2015 وقالت لا كبيرة للترويكا لن تقبل بالهزيمة ولا بد أن تواصل النضال.. وأن تقول: المستقبل مازال أمامنا.