عمان المحبة والألفة كما أعرفها!

قبل أيام، احتشدت مكونات المجتمع العمّاني بمختلف أديانه وأعراقه وأصوله، وخلفياته الفكرية والسياسية، وطبقاته الاجتماعية، في كنيسة العذراء الناصرية بالصويفية، لمشاركة صديقة عمرهم لوسي أصلو قداس وداع أقامته عن روح شقيقتها عطيه التي توفيت في الولايات المتحدة بعد صراع مرير مع المرض.
كانت مناسبة مفعمة بالشجن والتعاضد والأمل بمستقبل أفضل، عماده الاعتدال والتعددية والانفتاح وحب الحياة، بدلا من ظلال التطرف الديني والفكري والاجتماعي الذي بات يتمدد بسرعة جنونية لم نعهدها من قبل، على امتداد المنطقة الرابضة فوق برميل بارود.
أمسية نادرة يفتقدها العديد منا.
فالصلاة على روح الفقيدة بدأت في الساعة السابعة مساء، وتشابكت نهايتها مع أذان المغرب في المسجد المجاور. ثم خرج مودعو عطية إلى باحة الكنيسة لتناول العشاء/ الإفطار معا، في مشهد رائع يعكس تنوع عمان وتعدديتها وانفتاحها؛ عمان التي ترعرعت في كنف جبالها الستة (آنذاك) قبل خمسة عقود.
أحيت هذه الأمسية أجواء العيش المشترك والتآخي والمحبة والعلاقات الأسرية الحميمة التي أضفت صبغة مدنية، حيث كان الدين لله والوطن للجميع. وذكّرتنا بعناوين بتنا نفتقدها، على رأسها الهوية الجامعة للأردن عموما ولعمان الحديثة خصوصاً التي تأسست العام 1909 كبلدية صغيرة، ونهضت على أكتاف أجدادنا؛ مسلمين ومسيحيين: عشائر الوطن، شراكسة، شيشان، أرمن، شوام (من لبنان وسورية)، حجازيون، عراقيون، مصريون، فلسطينيون.. تفيؤوا ظلال "العروس" الفتية، هربا من العنف والبطش في بلادهم على مدار عقود.
الأجيال المؤسسة، هي التي جبلت عمان بسواعدها، وأعطتها نكهة خاصة بها، ولهجة "عمّانية" واضحة المعالم، وأطباق طعام غنية، وعادات وتقاليد تعكس نسيجا اجتماعيا وثقافيا نادرا غذّى الهوية الوطنية الجامعة، وعزّز الإرادة المجتمعية وكرامة الناس. فعمان الأمس تقف شاهدة على كل ما يمثله مصطلح التعايش والتعددية والتنوع من مكامن قوة.
كم أشتاق لتلك الأيام!
لوسي نفسها جزء من قصة عمان القديمة/ الحديثة. فقد لجأت مع والدتها إلى عمان منتصف السبعينيات، حال آلاف اللبنانيين الفارين من جحيم حرب مذهبية. واستقرت في مملكة فتحت أحضانها للجميع من دون تمييز، حيث عاشت أحلى أيام شبابها هنا، وكبرت هنا، وتريد أن تسجّى تحت تراب هذا الوطن بعد عمر طويل، على غرار العديدين.
أعطت الكثير للأردن ولقطاعه السياحي الناشئ، في زمن لم يكن للمرأة دور في كثير من أماكن العمل. وخدمت الأردن بوفاء وإخلاص ووطنية على مدى ثلاثة عقود ونيف، عبر عملها في فندق إنتركونتيننتال عمان، نافذة العالم على الأردن في ذلك الوقت. وتقديرا لجهودها المضنية وخدمتها الطويلة في سبيل "الله والوطن والملك"، وبعد استيفاء شروط الجنسية والتجنس، منحها الملك الراحل الحسين بن طلال جواز سفر أردني.
لوسي أردنية حتى النخاع. ليس لأنها تربت في كنف أسرة أردنية، بل لأن عمان احتضنتها وأعطتها الأمان والاستقرار والثقة التي يحتاجها أي فرد ليتحول إلى مواطن صالح، مؤمن ببلده، ومستعد للتضحية في سبيله؛ ولأن بيوت العمانيين والأردنيين باتت مفتوحة أمامها تماشيا مع عادات هذا الشعب المضياف وتقاليده. وهي لن تبدّل أردنيتها بـ"مال الدنيا"، مع احتفاظها بذكريات لبنان وبمكان خاص للبلد الذي ولدت فيه. وفي ذلك تشابه أردنيين بأصولهم المختلفة.
أكتب عن تلك الأمسية في سياق أعمق وأكبر. فعمان التي عرفها جيل الستينيات مثلا، تغيرت كثيرا، وفي الغالب لاعتبارات سياسية واقتصادية واجتماعية متداخلة، وسوء تخطيط عمراني، ونمو عشوائي غير مدروس؛ حال قصص عواصم شبيهة حول العالم. يضاف إلى ذلك غياب الاستقرار السياسي في هذا الإقليم المتفجر، حيث لا تنقطع موجات المهاجرين الجدد.
فخارج أسوار العشاء/ الإفطار، يشعر العديد ممن نشأوا في تلك الحقبة، بغربة مجتمعية الآن. هوية عمان الثقافية والاجتماعية والدينية تغيرت كثيرا خلال العقود الثلاثة الماضية؛ فقدت الكثير من خصوصيتها واعتدالها وانفتاحها، حال غالبية قرى ومدن المملكة.
لذلك أسباب متعددة: فشل استراتيجيات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، والنظام التعليمي، وغياب جهود حقيقية لتحديث المؤسسة الدينية التقليدية وفصل السياسة عن الدين. وفي ذلك يتساوى الأردن مع دول عربية بعد انتهاء حقبة الاستعمار. إذ فشلت غالبية الدول العربية، بنسب متفاونة، في وضع أسس بناء المجتمعات الحديثة القائمة على المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات والحريات السياسية والنقابية والعمالية وفصل السلطات واحترام حرية الرأي والتعبير.
عمان مؤشر لما حل بالأردن.
مدارس عمان في الستينيات، وغالبيتها حكومية، كانت تدرس مناهج مستنيرة ومنفتحة إلى درجة كبيرة، قبل أن تحتكر جماعات سياسية معينة وزارة التربية والتعليم، وتجيّرها -في سياق استكمال مشروعها السياسي- لخدمة مصالحها وأهدافها، مكرّسة ثقافة التخندق والكراهية والانغلاق والظلامية. وهكذا غيبت عن المناهج أسس الفلسفة والفنون والإبداع والتفكير النقدي. فيما مضى، صورة المرأة في الكتب المدرسية لم تركز على نمط واحد وزي واحد، كما هي عليه الحال اليوم.
المعلم كان أنموذجا في الأخلاق والقيم والمعرفة. كان مربيا صالحا بكل ما للكلمة من دلالات. وكانت المرأة تحترم وإن لم يكن لها وجود يذكر في الحياة العامة.
الغالبية كانت تنتمي للطبقة الوسطى، وكانت ترتاد المقاهي والمطاعم والمتنزهات ذاتها، على ندرتها. وفي الغالب تأكل من ذات المخبز والمتجر، وتعيش في منازل متشابهة الحجم والشكل. الأسر الميسورة لم تجاهر بنعمتها، وكانت تمد يد العون للمحتاجين من دون تبجح. وعلى المقاعد الدراسية جلس طلبة امتهن آباؤهم مهنا حرة كالتجارة والطراشة والنجارة والسواقة، إلى جانب آباء في قطاعات الطب والقضاء والدبلوماسية والعسكرية والأمن والسياسة. الطبقية لم تكن ظاهرة بالوحشية التي تطل فيها الآن. احترام الشخص لذاته وللآخر كان الأساس، إضافة إلى الكرامة الشخصية ومستوى تحصيله العلمي.
لم يكن هناك "تويتر" و"فيسبوك" و"إنستغرام" و"يوتيوب"، ومئات الفضائيات التي تبث الصالح والطالح وتكفر الآخر. كان هناك مفتٍ واحد. الدين أو العرق لم يكونا عامل تفرقة بين الطلبة كما اليوم. كانت هناك بوتقة ثقافية وأخلاقية تجمع أتباع جميع الأديان والمعتقدات. لم يكن أحد يرمي قاذورات من السيارة أو يجرؤ على مخالفة قانون السير. جهاز بيروقراطي متعدد ومنفتح كان يدير الوزارات.
وحدها الحرية السياسية كانت مقيدة، كما هي الحال اليوم؛ الأحزاب اليسارية والقومية كانت تعمل بسرية، والإخوان المسلمون كانوا الاستثناء على أساس أنهم "جماعة خيرية". أما اليوم، فلا حضور لغالبية الأحزاب.
آنذاك، غالبية رجال الدين وعلمائه كانوا من المثقفين والمستنيرين، من أمثال المرحومين الشيخ إبراهيم القطان ود. ناصر الدين الأسد، حال خطباء وأئمة المساجد. رجال الكنيسة كانوا أيضا على ذات السوية. لم تكن هناك ازدواجية في القيم والأخلاق. في عمان، عاش متدينون وغير متدينين من دون أن يكفرهم أحد أو يجبرهم على اتباع أحد الأديان السماوية.
القراءة والمطالعة كانتا مهمتين لنقص أماكن التسلية ومحدودية البرامج التلفزيونية. كان السبب الرئيس لعدم تشجيع الزواج بين أتباع الأديان المختلفة الرغبة في حماية الحقوق المدنية للمتزوجين، وليس لأن هناك دين أفضل من دين. كانت نساء عمان أحرارا في ارتداء ما يردن. ولم تسمع السيدة "المحتشمة أو غير المحتشمة في لباسها" إساءات لفظية، ولم تتعرض لإهانات أو تحرشات جسدية ولفظية في الشارع والسيارة. الجميع كان يعرف ما له وما عليه.
في الأغلب، كان أبناء وبنات الحارة يلعبون معا بعفوية، من دون تعرضهم للاتهام بالاختلاط، كما حصل لحملة الشباب الرائدة "يلا نفطر مع بعض" قبل أسابيع. كلمة الأب لا تعاد مرتين، وكان هناك رهبة واحترام للكبير، وأدب وأخلاق لدى عموم الناس. لم تشدد العقوبات على من يفطر في رمضان، مثلما حصل في السنوات الماضية، لأن الجميع كانوا يحترمون العادات والأعراف والتقاليد.
كانت المحال التجارية تعرض ما تريد في واجهاتها، ولا تتعرض لهجمات وتكفير، كما حصل أخيرا عندما عرض أحد المحال في مول "بنطلونا شفافا" في مخالفة للأعراف السائدة والقيم الدينية بحسب المعترضين.
إيجابيات الماضي كانت تفوق سلبياته بكثير. وهي شاهدة على ما يمكن أن نكون عليه اليوم. لكننا نحتاج إلى تطوير منظومتنا المجتمعية والتعليمية، وتعزيز منظومتنا القيمية، بسرعة؛ لنحاصر ثقافة التكفير والتخوين، ونكون جزءا من المستقبل.
قوتنا في تعدديتنا، وفي احترامنا للآخر ولحرية الرأي وحق الاختلاف، بدلا من أن نتحول إلى نسخة كربونية منغلقة على نفسها، تريد العيش في أجواء العصور الجاهلية وخالية من اللون والنكهة.