سؤال التخلف والحداثة ومصباح « ديوجين»

الانسحاب الطوعي أو الإجباري من كلّ ما يمت لصناعة القرار بصلة، يعطيني الفرصة الجميلة للتحديق في ما يجري بحرية، ويمنحني نعمة الرؤية في عالم الغبار والضباب والدم والقتل والموت المجاني الذي يعيشه العرب، وسأحمل " مصباح ديوجين " وأشعله في عزّ ضوء الشمس العربية الحارقة، وأقول بحرية : أولا : معضلتنا العربية الدائمة هي علاقتنا بالقبيلة وثقافتها، نحن لم نحسن طوال صناعتنا لتاريخنا إدارة الدولة بأدواتها، ثقافة القبيلة تقمصتنا وحركتّ مراحل التاريخ كله.. لن نصل عالم الحداثة طالما بقينا نلبس عباءات الجاهات ، وصراع القانون وسلطته مع سلطة القبيلة هو محور حركة التاريخ العربي، وغالبا ما تتفوق ثقافة القبيلة على الدول التي تديرها سطوة القبائل التاريخية، ولا حداثة مع هذا الصراع الثنائي، القانون والقبيلة ..! ثانيا : صحيح أننا نعيش عالم القرن الحادي والعشرين، وصحيح أننا نمتلك أدوات التقدم التكنولوجي الذي اخترعته عقول الآخرين، لكننا مع الأسف ندير مجريات حياتنا في هذا القرن الذي تجاوز الحداثة في العالم المتقدم لما بعد الحداثة، بأدوات القرن السابع عشر .. معضلتنا التي لا نقبل بمواجهتها أننا لا نملك نعمة المنهجية، صحيح أن لدينا مئات الجامعات في بلاد العرب التي تمتد من الخليج إلى المحيط، لكننا ندير أحداث حياتنا بعقلية الماضي .. ندعيّ بأننا نملك لغة العصر وأننا نتعامل مع عالم الشبكة العنكبوتية والتطور التكنولوجي الفائق، ولكننا ندير عالمنا بأدوات الماضي، وثقافة القبيلة، الغائب عن حياتنا هو تجديد أدوات منهجيتنا والقبول بالعقلانية وتعليمها للجيل الذي سيدير مصير العرب القادم .. تطوير أدوات التفكير والوصول للعقلانية هي المعضلة التي نتعامى عنها، نحن لا ننتج علما ونعيش على ما ينتجه العقل المفكر في العالم المتقدم، ونتباهى بعدد الجامعات التي نكدسّ فيها الطلبة ونلقنهم خطابنا التقليدي، وهو خطاب انتهت صلاحيته ..! ثالثا : وبيت القصيد هنا أن معضلتنا الكبرى هي تجمدنا عند فكر مرحلة ما والسماح لهذه المرحلة الماضية بأن توجه حياتنا، وكأن الزمن توقف عند عقارب تلك الساعة، إن العقل العربي الذي تفتح مع مرحلة النهوض في القرن التاسع عشر تم الحجر عليه، وصارت قدسية الماضي تعتقل كلّ شيء، ولا يمكن للعقل العربي أن يتولى القيادة إذا ظلّ بعيدا عن الخطاب الديني . رابعا : معضلتنا الكبيرة هي في " ثقافة الإقصاء " إنها المقصلة التي تقصم كلّ أشكال التطور، وهي سبب التخلف الإداري الذي نعانيه، فالزعامة التقليدية العشائرية تحركّ أي موظف مسئول، وتعطيه الفرصة لإقصاء من يخالفه، فلا مجال للتميز أو الخروج على الصوت الجماعي، وهذه هي قاصمة الظهر، الوزير يقصي المفكر والعميد يقصى الأستاذ المميزّ ..و .. و ..و..! نحن لا نريد أن نسمع غير أصواتنا ولا مجال لصوت آخر مهما كانت عبقريته وعمقه . سأسمح لنفسي الآن أن أطفئ مصباح ديوجين، وأن أنعم بالتفكير الهادئ بعيدا عن الصراع على الكراسي وأصحابها، فقد منحتني " ثقافة الإقصاء " نعمة التفكير بهدوء في أفق يصل حدود المجراتّ، وأقول بيقين حقيقي بأن الوطن هو الباقي، وأن ما يرتكبه البعض في زمن تنصيبه على كرسي العمل الحكومي، سيحسب عليه، وشكرا " لثقافة الإقصاء " التي تمنحنا الفرصة للتفكير الحرّ ورؤية الحقيقة بالعين المجردة .