خلي الشوارب على جنب!


من بين كل الثدييات، تطور الإنسان ليصبح أكثرها نعومة، وأقلها توحشا، وأقدرها على التفكير والترميز والتعبير. فتحسن مظهره العام بعد تدني مستوى كثافة الشعر الذي يغطي جسده؛ إذ توقف نموه على الكثير من أجزاء الجلد باستثناء الرأس وبعض أجزاء من الوجه والصدر، وحول منافذ الجسد، وتحت الإبطين، وبكثافة أقل على أجزاء من الساقين والذراعين.
ويتفاوت نمو الشعر، كثافة وانتشارا، بين الذكور والإناث، ومن شخص لآخر، لأسباب وراثية وبيئية وثقافية. وكذلك المعاني والدلالات للاهتمام والعناية به. فلدى كثير من الشعوب البدائية، كان الشعر وما يزال، من أهم الأجزاء والمتعلقات التي تحيطها القبيلة باهتمام بالغ، فتضفي على التعامل معه خصوصية، لاعتقادها بإمكانية استخدام الشعر في السحر واستدعاء قوى الشر والتحالف معها. لذا، أسندت القبائل البدائية وظيفة قصّ شعر الزوج وتقليم أظافره، والاحتفاظ بهما وحمايتهما، للزوجة الأولى، باعتبار ذلك امتيازا لا تحصل عليه الزوجات الأخريات.
في الثقافة العربية، وعند كثير من شعوب البحر الأبيض المتوسط، تهتم النساء عادة بشعر الرأس وطوله ولونه، ويكتسب أهمية جمالية ودلالات قيمية قد ترقى إلى مستوى التقديس. فالنساء الأكبر عمرا يقسمن بالشعر، ويضعن أيديهن على شعورهن "العقصة" باعتبارها ترمز إلى الصدق والأمانة والموثوقية. أما الصبايا، فيعتبر الشعر بالنسبة لهن مصدرا للزهو والإغواء والتباهي. ففي تراثنا الشعبي مقاطع فلكلورية تغنّى في الاحتفالات من مثل: "يا بنت يا إللي عالجبل... طلي وشوفي فعالنا... وانتن غواكن شعركن... وحنا غوانا فعالنا". وقد غنى الشعراء للشعور الطويلة، وتغزلوا بجمالها، من مثل: "إذا نشرت ذوائبه عليه... ترى ماء يرف عليه ظل"؛ أي إن الشعر الأسود على الجسم الأبيض، كالظل فوق الماء الصافي. إلى قول الشاعر "ما للعصافير تدنو ثم تسألني... أهملت شعرك ضاعت عقدة القصب". وفي التراث الأردني، يستخدم الشعر في أبيات تستنهض العزيمة وتذكي العصبية، من قبيل: "هيهه يا أبو الجديلة... على متنك تتدلى... نحمد الله قبيلة... شيخنا صار منا".
وبالنسبة للذكور في بلادنا، يكتسب شعر الوجه أهمية ثقافية بالغة؛ إذ له دلالات تعبيرية حول طرق التفكير والشعور، وربما تصرف الشخص. وبشكل عام، يحمل الشعر الذي يكسو الشفة العليا للذكر "الشوارب" قيمة أعلى من سائر الشعر في الأماكن الأخرى من الجسد؛ سواء كان هذا الشعر موجودا أم تمت حلاقته، فهو عنوان الوفاء والالتزام والمسؤولية، يقسم به الشباب والرجال، ويعدون بحلقه إذا ما نكثوا بوعدهم أو خسروا رهانهم.
والمراهق يشعر بنشوة الرجولة مع بداية ظهور شاربه، ويحاول تحريضه خلسة للنمو على الأجزاء الوسطى من الشفة وتحت الأنف، في محاولة لتسريع اكتمال مظاهر الرجولة التي ستبرر له المزيد من الاستقلالية.
وإذا كانت "الشوارب" تعبّر عن زهو الرجال واعتدادهم واستقلاليتهم، فإن اللحى وتربيتها تعبير عن الزهد والتدين، وربما في بعض الحالات التنحي عن ملاحقة الأهداف الثقافية الدنيوية، وحتى الانسحاب من ممارسة الأعمال المنتجة، وتكريس أصحابها وقتهم للقيام بالعبادة وإصلاح ذات البين وأداء أدوار مساندة للابناء والعائلة عند الحاجة. ففي القرى والبوادي وحتى المدن، كان الآباء والأجداد يهتمون بشواربهم في مرحلتي الشباب والرجولة، ثم ما يلبثون أن يحولوا اهتمامهم للحى بالتزامن مع ولادة الأحفاد، باعتبار أنهم أصبحوا ينتمون إلى جيل أقل طاقة بدنية، إنما أكثر خبرة وحكمة وتدينا.
وفي الدين الإسلامي، يرى البعض أن تربية اللحية وإطالتها، مع تخفيف الشاربين وتقليمهما، سُنّة نبوية.
وفي أيامنا هذه، ومع تنوع وتعدد الحركات التي تتخذ من الإسلام مبررا وغطاء لأفعالها وعملياتها التخريبية، يلاحظ ان اللحى وأحيانا "الشوارب" تمثل جزءا أساسيا من المظهر العام لمنتسبي هذه الجماعات.
لا أعرف بالضبط نسبة البالغين في بلادنا الذين ما يزالون يهتمون بتربية شواربهم، ولا أعداد الذين يعتنون بلحاهم. لكن الملاحظات العابرة تشير إلى تزايد اعداد الذين يهتمون بلحاهم على حساب شواربهم. فهل لذلك أي دلالة؟ الحقيقة أنني لا أستطيع الجزم، لكن الملاحظة جديرة بالبحث.