الفلسفة لإصلاح التعليم الأردني..!

أهم عناوين نقاشنا الراهن، كمسائل أمن وطني، هي مجابهة التطرف المفضي إلى الإرهاب، وتطوير المناهج والتعليم والعقل الاجتماعي. ولا تخفى العلاقة الحتمية بين الموضوعين. فالمناهج السيئة تصنع تعليماً سيئاً وعقلاً جامداً مهيأ بنيوياً للتطرف وغياب القدرة على التفاوض مع أي آخر. كما أن الأوضاع الاقتصادية الرديئة التي تنجم حتماً عن مجتمع سيئ التعليم -وبالتالي غير قادر على الابتكار والإنتاج- توفر بيئة للتطرف. يضاف إلى ذلك أن العقل غير النقدي لا يستطيع إنتاج منظومة سياسية ديمقراطية وحاكمية رشيدة قائمة على الحسابات المنطقية والنظرات التقدمية وحسّ التعاون.
لذلك كله علاقة وثيقة بالفلسفة. فحيث ازدهرت الفلسفة ازدهر العلم والابتكار وتطورت النظرية الاجتماعية. ومن أوضح الأمثلة على ذلك التجربة الإغريقية في حقبة مبكرة قبل ميلاد المسيح. وبالقدر الذي يخصنا أيضاً، كانت الفلسفة جزءا مهماً من البناء التأسيسي للحضارة التي نعرفها باسم "الحضارة العربية الإسلامية". ولم يكن اطلاع المفكرين والعلماء العرب في بواكير تشكيل الجزء المدني والمادي من هذه الحضارة لمجرد إضافة مخزون معلوماتي، وإنما كان ذلك تمريناً اساسياً لتعليم العقل معنى الجدل وممارسته. وحتى لو أن العمل الفلسفي الإسلامي ركز في معظمه على تفكيك المقولات الفلسفية "الإلحادية" لصالح الفكرة الإسلامية، فإن ذلك العمل لم يكن لينجح بغير استعمال المنطق وعرض العلاقات بين الأشياء والأفكار، وهو من صلب عمل الفلسفة.
ليست الفلسفة، كما يُشاع، علماً فائضاً لا علاقة له بشيء سوى الكلام لمجرد الكلام. إنها في الحقيقة جزء لا يمكن الاستغناء عنه في ممارسة كل العلوم النظرية وتجلياتها العملية: الرياضيات والهندسة والفيزياء والأنثروبولوجيا، وعلوم فهم التركيبات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وعلاقاتها. وغالباً ما يكون أبرز العلماء في كل مجال فلاسفة أيضاً. لذلك وصفوا الفلسفة بأنها "أم العلوم". وعلى سبيل المثال، بقدر ما أحدثت نسبية آينشتاين ثورة في الفيزياء، فإن فكرة النسبية مركزية في ممارسة إطلاق الأحكام ورفض الحديث عن حقيقة مطلقة. والنسبية بهذا المعنى تخدم فكرة التصالح والبحث المستمر والتجريب والقبول بحقائق الآخرين.
سوف يبين التعرف إلى الفلسفة أن للأديان أسسا في الفلسفة. فقد تحدث أفلاطون عن "مثال المُثُل" كأول إشارة إلى وحدانية الله، وتحدث عن "خلود النفس" في محاوراته، وهي ما تأسست عليها فكرة الآخرة والجنة والنار. كما أن الفلسفة هي حاضنة البحث في الأخلاق وأحكامها: الصواب والخطأ، والفاضل وضده، وعمل الإرادة والضمير وما شابه. وليست الفلسفة بالضرورة طريق الإلحاد الحتمي، كما يزعم ضيقو العقول. ولو كانت كذلك، لنسفت الأديان السماوية التي تلتها مباشرة بمجرد الاطلاع عليها. لكن معرفة الفلسفة تحديداً هي التي علّمت اللاهوتيين كيفية عقلنة الأديان ومحاولاتهم للتوفيق بين الغيبي والدنيوي والمطلق والتجريبي، فكان هناك فلاسفة يهود ومسيحيون ومسلمون. كما أن ديكارت بدأ بالشك ليصل إلى الإيمان. أما إشاعة الفكرة الغريبة بأن الفلسفة مرادف للعبث، أو السفسطة وإلقاء الكلام غير المفيد على عواهنه، أو سبب الكفر، فهو أجهل شيء في العالم. وأتصور أنه يمكن الحكم باطمئنان على المرء بالجهل المطبق إذا كان معادياً للفلسفة على هذه المرتكزات.
في الحديث المهم الجاري عن التطرف ومشكلات التعليم في الأردن، والتساؤل عن مكاننا الذي نريد في هذا العالم، سيكون من المهم الانتباه إلى أدوار الفلسفة في التعليم والإصلاح المنهجي. وبقدر ما هو تعليم اللغة والعلوم والتاريخ أساسي، فإن إدراج دراسة الفلسفة كمنهج أساسي في كل المراحل التعليمية سيحدث تأثيراً إيجابياً في كل شيء. سوف تكون المعرفة عن الفلسفة كفيلة بتزويد الطالب بملكات معرفية تساعده في فهم المساقات الأخرى جميعاً في المقام الاول. وسوف يتعلم كيفية محاكمة الأفكار وتقييم صوابها وخطئها على أسس منطقية، بحيث يتكشف أمامه تهافت التطرف والخزعبلات والتزمت. وبامتلاك القدرة على تصور الأفكار المجردة، والعثور على العلاقات الجدلية، سيتغير العقل الاجتماعي الجمعي بطريقة تؤثر على الإنتاج والابتكار والأداء الأخلاقي وعلاقات المجتمع، ثم إدارة السياسة وعلاقاتها. ويكفي تذكر أن الديمقراطية نفسها كانت من نتاج حقبة الفلسفة الإغريقية المزدهرة. وبالتأكيد، لن تجعل معرفة الفلسفة الناس فلاسفة، كما لا يكون قارئ التاريخ مؤرخاً، لكنها ستزودهم بالأدوات لتشكيل نظرة شخصية وعالمية غير عشوائية، منفتحة على كل فكرة وكل آخر!