القومية والمرابون في الأزمة اليونانية

سيتوقف التاريخ مراراً عند أزمة الديون اليونانية الراهنة، وكيف عولجت (أو لم تعالج). وستبقى الأزمة محطة مهمة في تاريخ النظام الاقتصادي الدولي، وفي مسيرة الاتحاد الأوروبي. وحتى الآن، يبدو أنّ السياسيين ومدراء البنوك يريدون الاستمرار في تطبيق القواعد ذاتها التي يمارسونها دائماً، رغم ثبات فشلها.
رفض اليونانيون، يوم الأحد الماضي، خطط الإنقاذ الدولية التي كانت تعتمد على المزيد من التقشف؛ أي على المزيد من خفض الرواتب والتأمينات الاجتماعية، وتقليص تحويل الأموال للخارج، وزيادة الضرائب. فقد رفض 61.3 % من المصوتين في استفتاء قاده حزب "سيريزا" اليوناني الحاكم، الخطة الأوروبية للتقشف، وهي نسبة تزيد على نسبة الأصوات التي حققها الحزب الحاكم في الانتخابات مطلع هذا العام، والتي خاضها ضمن برنامج رفض التقشف أيضا.
اللافت في استعراض أهم تحليلات وتعقيبات خبراء الاقتصاد في العالم، أنّ هناك اتفاقا على أنّ اليونان، حكومة وشعباً، لا تتحمل الجزء الأكبر من وزر الأزمة الراهنة. فمثلا، يقول مارك بليث، في دورية "فورين أفيرز"، إنّه لا يمكن لوم ربات البيوت اليونانيات، أو اليونانيين "الكسالى" -في إشارة إلى التحليلات التي تُحمّل نظام التأمينات الصحية والتقاعد والإنفاق غير الرشيد؛ بتقديم ميزات مبالغ فيها للمواطنين- مسؤولية أزمة اليونان. وبحسب تحليل الدورية الصادرة عن "مجلس العلاقات الخارجية" الأميركي، فإنّ البنوك الأوروبية تَوسّعت في إقراض اليونان منذ العام 1999، عندما بدأ نظام عملة "اليورو"؛ أي إنّه كان هناك إقراض غير رشيد سعيا للربح. ومنذ بدء خطط "الإنقاذ"، العام 2010، للاقتصاد اليوناني، خصص الأوروبيون وصندوق النقد الدولي 230 مليار دولار للأمر. ولكن، بحسب حسابات بليث، فإنّ 90 % من الأموال لم تصل اليونان، بل وصلها 27 مليارا فقط، فيما ذهب الباقي في الواقع للدائنين، وخصوصاً البنوك الألمانية والفرنسية، لسداد الديون وفوائدها. وأي شطب للديون، كان ضمن صفقات إقراض جديدة، تتضمن المزيد من الأرباح للبنوك والدائنين. ويذهب بليث صراحة للحديث عن "القوميات" التي تحكم السلوك الأوروبي؛ فالألمان والفرنسيون يبحثون عن مصالحهم، وبالتالي يمكن رؤية القوميات والدائنين (البنوك التي تتصرف كالمرابي الذي يستفيد من تعثر مدينيه، ويستعين بالحكومات لزيادة أرباحه، من دون أن يتحمل مسؤولية إقراض مدين متعثر أصلا). وهو ما يتوقف عنده جوزيف ستيغليتز، أستاذ الاقتصاد في جامعة كولومبيا، الحاصل على جائزة نوبل. فهو يطالب البنك المركزي الأوروبي بإقراض اليونان ولعب دور "الملاذ الأخير"، في إشارة ضمنية إلى الاستياء من الاستمرار في إقراض اليونان على أسس تجارية من البنوك، من دون أن يلعب الأوروبيون دورهم ككيان موحد أو يتجه نحو الوحدة. ويلاحظ ستيغليتز تطبيق حكومة اليونان كل ما طُلب منها، وربما كان الاستثناء هو الفشل في إجبار الأثرياء اليونانيين على دفع الضرائب المطلوبة منهم.
تزيد البطالة بين اليونانيين على الربع، وبين الشباب اليوناني على 50 %؛ ولا يمكن للشخص أن يسحب من الصرافات الآلية للبنوك من ماله الشخصي أكثر من 60 يورو يوميا. وكما تلاحظ مجلة "إيكونوميست"، ولأنّ فئات عملة اليورو الصغيرة مفقودة من الأسواق، لا يسحب الشخص أكثر من 50 يورو، وهناك نقص في الغذاء والدواء.
الصورة الآن أنّه كلما تعثر المدينون، حصل الدائنون على دعم وتطمينات وأرباح جديدة. وأنّ تفكيرا مختلفا في أزمة اليونان، وغيرها، يعني أنّ البنوك الدائنة يجب أن تُعاقب على قراراتها غير الرشيدة في الإقراض، بدفع ثمن ما، أو على الأقل عدم تحقيق أرباح إضافية. لكن ما يحدث في الواقع هو عكس ذلك؛ فقد حقق المصرفيون أرباحاً من الأزمة.
أضف إلى ذلك أنّ الأزمة كانت اختبارا لفكرة الاندماج الأوروبي. لكن الحقيقة التي تجلت، هي أنّ كل حكومة اهتمت بمصالحها، ومصالح مواطنيها، وبنوكها ومدراء بنوكها، بما في ذلك ألمانيا التي نالت مساعدات مهمة لاقتصادها في القرن العشرين، حتى أصبحت القوة الاقتصادية الأوروبية الأولى.
سيكون السؤال الآن: هل يغير العالم نمط تعامله مع أزمات الديون، والقائم على توفير أموال لسداد الدائنين وفوائد القروض؛ فيوفر أموالا لليونان نفسها في قروض قد تسمى "قروضا حسنة" أو ما شابه، من دون إيلاء الاهتمام للدائنين بالدرجة الأولى؟ وهل يتذكر الأوروبيون أنّ بينهم اتحادا؟