هجرة الكفاءات من وزارة الصحة.. والحل !
أخبار البلد - د. زيد حمزة
بدعوة من نقابة الأطباء حضرت في 16 /6 /2015 اجتماعاً ضم بالإضافة الى النقيب وبعض اعضاء مجلسه عدداً من وزراء الصحة والنقباء السابقين وقد تلا علينا رئيس لجنة أطباء وزارة الصحة في النقابة تقريراً عاماً عن المشاكل التي تعاني منها الوزارة وركز بالطبع على الصعوبات التي يواجهها وزملاؤه وتؤثر سلباً على نوعية وحجم الخدمات العلاجية المقدمة لغالبية المواطنين من الفقراء وذوي الدخل المحدود بالاضافة الى موظفي الدولة الذين يضطر صندوق التأمين الصحي الممول اصلا منهم أن يشتري لهم بعض الخدمات من القطاع الطبي الخاص وبكلفة باهظة، وعزا ذلك لأسباب عدة منها هجرة الكفاءات الطبية الى القطاع الخاص او دول الخليج وما ينتج عنها بين الحين والآخر من نقص حاد في الأطباء الاختصاصيين الى درجة تهدد صحة وحياة المرضى في بعض محافظات المملكة.. وقد ادلى الحضور بآرائهم حول الطرق التي قد تساعد وزارة الصحة على الخروج من أزمتها، ومن ناحيتي اكدت أولاً على ضرورة حمايتها من أخطار الخصخصة قبل ان اقول بإن كثيراً من مشاكلها ليست جديدة وليست حصراً عليها بل متفشية بشكل او بآخر في مختلف أجهزة ووزارات الدولة نتيجة للبيروقراطية وسوء الإدارة والفساد المالي لا شح المخصصات المالية كما يتوهم او يروّج البعض ! لكنها تنفرد دون سواها بمشكلة هجرة الكفاءات الطبية بسبب تدني رواتب الأطباء ليس بالمقارنة برواتب باقي موظفي الدولة فهذه ادنى بكثير، وليس بالمقارنة بزملائهم في كليات الطب او الخدمات الطبية الملكية فأولئك لهم ظروف أخرى وشروط عمل مختلفة، وانما بالمقارنة غير المعلنة مع الدخول المرتفعة لزملائهم من الاختصاصيين في القطاع الطبي الخاص.
وللتذكير فقد بدأت هذه المشكلة تحديداً قبل خمسين عاما عندما اصدرت (الحكومة) في عام 1965 قراراً يمنع اطباء وزارة الصحة من العمل في القطاع الخاص خارج اوقات الدوام بعد أن كانت تسمح للكثير منهم بذلك وكانت حجتها أن بعضهم يهمل وظيفته لحساب عمله الخاص وهو انحراف كان من الممكن معالجته باجراءات ادارية بسيطة رادعة بدل هذا القرار الغريب الذي جرى في حينه التحذير من عواقبه السيئة، الآنية والمستقبلية، على مستوى العمل في الوزارة وكان اولها استقالة اكثر الاختصاصيين دفعة واحدة لانهم، ببساطة كانوا يكسبون في القطاع الخاص اضعاف رواتبهم كسباً حلالاً ، واستمر بعد ذلك مسلسل استقالات افضل أطباء الوزارة بعد ان يعملوا لبضع سنوات يصقلون فيها مهاراتهم ويراكمون خبراتهم وتكون نتيجة استقالاتهم ان يفقد المرضى عنايتهم الطبية المتميزة وتخسر اجيال الاطباء الجدد جهودهم المثمرة في مجالات التدريب والاشراف والمتابعة، مما اضطر الوزارة لاسترضاء الباقين منهم أن تبتدع لهم انظمة علاوات جديدة ومعقدة لم تفلح في الاحتفاظ بهم طويلاً بالاضافة الى أنها اربكت نظام الخدمة المدنية وخرقت الأنظمة المالية واجبرت وزارات اخرى على قاعدة الأسوة أن تمنح موظفيها من المهنيين علاوات قد لا يستحقونها.
وقد رويت للزملاء المجتمعين جانباً من تاريخ هذه المشكلة التي عايشتها منذ بدايتها مع زملاء آخرين سواء في مجلس النقابة او خارجه فشهدنا معاً آثارها الضارة على مدى عشرين عاماً، وكيف سعيت لوضع حد لها بعد أن تسلمت حقيبة وزارة الصحة في عام 1985 ونجحتُ، رغم قوى الشد العكسي، في اقناع رئيس الوزراء بالموافقة على نظام جديد يوقف هجرة العقول دون ان يكلف الدولة شيئاً وذلك بالسماح للاختصاصيين بالعمل الخاص أسوة بما هو قائم ومعمول به بصيغ مختلفة في كل دول العالم باستثناء واحدة او اثنتين، وذلك وفق شروط وضوابط وعقوبات تحد من اساءة استخدامه، لكن حدث بالصدفة السيئة أن اجتمع نقيب الاطباء ومجلس النقابة برئيس الوزراء لامر اخر ورغب ان يبشرهم بموافقته على النظام الذي اقترحتُه ظناً منه ان ذلك يسعدهم، واذا به يفاجأ باعتراضهم عليه بحجة انه سوف يزيد البطالة في صفوف اطباء القطاع الخاص (كذا !) وبذلك تم مع الاسف اجهاض المشروع، لكني على الصعيد الشخصي بعد مغادرتي موقع المسؤولية لم أتوقف عن الدعوة له والمطالبة به، وناصحاً في نفس الوقت بعدم تبديد الجهد في المطالبة بزيادة رواتب الاطباء رغم ايماني بعدالتها إلا أنها مهما بلغت لا تساوي جزءًا يسيراً مما يمكن ان يكسبوه في القطاع الخاص فضلاً عن انها سوف تثير سخطاً واسعا لدى كافة موظفي الدولة وفي مقدمتهم المهنيون، ولاحقاً كنت اجاهر برأيي في عدم جدوى الالحاح على نظام خاص للاطباء اسوة بالقضاة اذ لا يوجد اي شبه بين الحالتين، وحين نشرتُ في هذا السياق مقالاً في الرأي في 7/ 12/ 1995 بعنوان ( وزارة الصحة والاطباء مرة أخرى) أثلج صدري تعقيب ايجابي حميم من نقابة الاطباء كتبه نيابةً عنها في 21/ 12/ 1995 رئيس اللجنة الاعلامية الدكتور نزيه عبابنة أيد فيه آرائي المطروحة (رغم خلافنا النقابي والسياسي والفكري) واشار الى قائمة المطالب التي كانت قد تقدمت بها الى مجلس النقابة مؤخرا لجنة اطباء وزارة الصحة وفي مقدمتها ضرورة حل مشكلة هجرة الكفاءات بالسماح للاختصاصيين بفتح عياداتهم الخاصة بعد اوقات الدوام الرسمي وهو ما يتطابق تماما مع ما أنادي به.
أما في الوقت الحاضر فمن الضروري التنبيه الى أنه لو تمت الاستجابة لهذا الاقتراح كحل دائم للاحتفاظ بالكفاءات فلن يؤتي اكله الا بعد وقت طويل ومن هنا لا بد من دعمه بحل اضافي عاجل ينقذ الوزارة من ازمتها الحالية الحادة ويقضي بفتح المجال فوراً لاستخدام اختصاصيين من القطاع الخاص برواتب رمزية سوف يقبل بها عدد كبير منهم بروح طيبة مقابل شرف الخدمة العامة ومتعة عمل الفريق الذي لا يعرفونه قط في القطاع الخاص ورغبتهم في الانخراط في الأبحاث الطبية المجزبة لهم وللوطن بما في ذلك برامج التدريب والتعليم، مع استمرارهم في عياداتهم في اوقاتهم الخاصة، وهو بالمناسبة حل طبقته الوزارة بنجاح في عام 1987 فتعاقد معها وبحماس مجموعة من كبار الاطباء، لكن المؤسسة الطبية العلاجية قامت بالغائه عندما باشرت عملها في عام 1988 !
لقد فاتني ان أذكر أن للجمع بين القطاعين الطبيين الخاص والعام فوائد جمة أخرى أثبتتها بعض الدراسات ومنها التحسن التلقائي لاخلاق الممارسة الطبية والتصنيف الأدق لمستوى اداء الاطباء وقدراتهم العلمية التي توصلهم عن جدارة الى المواقع المتقدمة في الوظيفة العامة مقابل هلامية ذلك كله في القطاع الخاص وهو ما يحتاج للشرح في حيز آخر.
وبعد.. فمن حقنا اليوم ان نتساءل، الا يكفي وزارة الصحة ما عانته على مدى نصف قرن جرّاء هجرة كفاءاتها وبقيت مكتوفةَ اليدين غيرَ قادرة على تبني نظام كهذا بسبب خوفها من نفس الحجة القديمة المتعسفة التي تطعن في امانة اطباء هذا البلد دون باقي اطباء الدنيا مع أنهم في واقع الحال المؤتمنون على حياة وصحة كل المواطنين، واعراضهم..؟!