خطوة تنظيم

في معسكرات التدريب ميادين يتدرب فيها التلاميذ على ضبط حركاتهم ورغباتهم ومشاعرهم كخطوات أساسية تعدهم لحياة جديدة عنوانها الضبط والربط والطاعة والامتثال كعوامل ضرورية لتوحيد طرق التفكير والشعور والسلوك لكافة المنتسبين لسلك الجندية؛ في أجواء التدريب هذه يتعلم المجندون المسير باشكاله العادي والبطيء والدوران للاتجاهات الثلاثة الأخرى ( اليمين واليسار والخلف ) ويمضون ساعات وساعات حتى يتقنوا الحركات ويؤدوها كما ينبغي ان تؤدى.
إلى جانب هذه المهارات يتدرب المجندون على مهارة لا تقل أهمية عن مفردات التدريب الأخرى ألا وهي "الخطوة تنظيم"، والمقصود أن يستمر التلميذ في تحريك القدمين حركة موضوعية بسرعة إيقاع المسير دون أن يبرح المكان.
ولإيعاز الخطوة تنظيم الذي يتجلى المدربون في إعطائه للتلاميذ وقع خاص على آذان التلاميذ ويحمل دلالات متعددة يستطيعون فهمها مع الزمن؛ فتارة من أجل تلافي أخطاء المسير وتارة من أجل انتظام الصفوف، وفي كثير من الأحيان لمفاجأة التلاميذ ومباغتتهم من أجل إعادة شحنهم بجرعات من الاهتمام والتركيز تحسن من استجاباتهم للإيعازات القادمة. بعض الشواش والمدربين يستخدمون الإيعاز للتعبير عن عدم رضاهم عن أداء الطابور ويعتبرون الإيعاز تنبيها مبطنا يقتضي الاستجابة.
المدهش أن تمرين الخطوة تنظيم أو الحركة الموضعية التي يتعلمها التلاميذ لتحسين لياقتهم وتصويب خطاهم قد تصبح أكثر الحركات استخداما وتعبيرا عن الواقع، وقد يمضي البعض وقته وعمره وهو يراوح مكانه، إما لانسداد الأفق أو لغياب الفرص أو لدخول البعض في مجالات عمل لا يحبونها ولا يملكون الموهبة ولا الاستعداد لأداء ما تتطلبه المهن منهم.
هناك سياسيون تورطوا في السياسة ليكملوا مشاوير الآباء ..العديد من أبناء الفنانين والمنتجين ورجال الأعمال ساروا على خطى الآباء وانضموا الى ميادين لا يجدون أنفسهم فيها.
قبل أكثر من عقدين تعرفت على شخص يعمل أستاذا جامعيا وهو لا يحب التدريس.
صاحبنا ليس هو الوحيد الذي عانى من الغربة المهنية، ففي نهايات الألفية الثانية التحق المئات من الشباب الأردني ببرامج التعليم العالي ﻻ لإبداعهم ومواهبهم ورغباتهم، بل سعيا لتحقيق أحلام أمهاتهم في اللقب الذي سكن مخيلاتهن.
فالآباء والأمهات في القرى والأرياف والمخيمات والبادية حملوا أحلامهم ورغباتهم المشروخة لأبنائهم، وعملوا على بيع أراضيهم وصرف مدخراتهم ورهن بيوتهم من أجل أن يحظوا بلقب "أبو الدكتور" أو "أم الدكتور"، يحفزهم لذلك إمكانية الحراك الوظيفي العمودي التي يساعد في تحقيقها اللقب، فقد أسهمت الاستحقاقات التي تمنحها الدولة على أسس عشائرية وكثرة الجامعات وندرة الفرص في غير مجالات التعليم في إغراء الشباب من ذوي القدرات العلمية المحدودة على الالتحاق في برامج الدراسات العليا في جامعات غربية وشرقية وعربية وفي مختلف التخصصات.
الكثير من الخريجين ممن درسوا للحصول على اللقب أصبحوا أساتذة جامعيين في عشرات الجامعات الأردنية التي توالدت بسرعة مذهلة وفتحت أبوابها لآلاف المدرسين ممن لا يملكون رغبة حقيقية في التدريس أو البحث أو أي من الأعمال الأكاديمية فعيونهم على البيروقراطية بانتظار استدعائهم ليصبحوا وزراء وسفراء ونوابا ومديرين عامين ومحافظين ورؤساء مجالس ومحررين وغيرها من المواقع التي يعتقد من يشغلها بأنه صاحب سلطة.
في بلادنا قليلون هم من يمارسون الأدوار التي يحبونها ويحسنون أداءها. آلاف النساء والرجال يراوحون مكانهم باحثين عن أدوار لهم أو ساعين لتغيير مواقع وأدوار لا يحبونها ولا يملكون القدرات اللازمة لأدائها.
غالبية الأفراد يشعرونك بأنهم في مرحلة الترانزيت يحاولون الوصول إلى مقاصدهم المهنية التالية والكثير منهم يظنون أن قطار الرحلة قد يتأخر أو لا يأتي، فيتسلون في إعادة إنتاج ما يعرفونه عن مهنهم وأعمالهم.
الاختيار المهني المدفوع برغبة الأهالي والحصول على الألقاب دون النظر إلى الموهبة والاستعداد والرغبة بعض من الأسباب التي أسهمت في تباطؤ التنمية وتعثر الإصلاح وتفشي التذمر وتردي نوعية الحياة.