هذا سقفنا فأين سقفكم

 

تنشر في الصحف اليومية يوميا مقالات تصف الإعتصامات والمسيرات التي تمت في الأردن على مدى الشهرين الماضيين بأقذع الأوصاف حتى أن بعضها يصل إلى الشتائم والتخوين والمطالبة بالقضاء عليها.

تدعي هذه المقالات بأسباب عدة في تبريراتها وهجومها على المعتصمين والمتظاهرين فالبعض يتحجج بنعمة الأمن والأمان التي نعيشها في هذا الوطن الجميل، والبعض يدعي أن هذه الإعتصامات تعطّل الحياة الطبيعية التجارية والإقتصادية وتعيق الحركة ووصول الناس إلى أعمالهم، كما يدعي آخرون أنها أي هذه الفعاليات تؤذي صورة الوطن أمام العالم.

تكون قمة المأساة عندما تدعي فئة من الشعب أنها الوحيدة التي ترى المصلحة العامة، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى تكون قمة المهزلة عندما تغالي هذه الإنتقادات في المزاودة حتى على مصالحها الشخصية العامة ومصالح أبنائها الوطنية. إن هذه الإعتصامات والمسيرات والمظاهرات، أولا هي حق عام للمواطنين منصوص عليه في الدستور والقوانين الأساسية للوطن، وعندما يعترف بذلك الحق رأس النظام وحامي هذا القانون والمحافظ الرئيسي على الدستور، فإنه يجب على كل من ينتقدها أن يتوقف عن المزاودة على النظام ويدعي بأنه ملكي أكثر من الملك. أما ثانيا فإن هؤلاء المعتصمون والسائرون لا يسعون لمجد شخصي ولا لمصلحة ذاتية وإنما هم ينادون بمطالب شرعية تعود على الوطن بأكمله ولأجيال قادمة وبالتالي حتى لو خالفت القانون فهي حق شرعي ومنطقي وطبيعي وأساسي من حقوق المواطنين.

الغريب أن من يعارضون ذلك يوافقون ويعترفون بشرعية هذه المطالب من حيث إقرارهم واعترافهم بمنطقية المطالب وحقيقتها، فهم يعترفون أن الفساد ينخر في البنية الأساسية لدولتهم ويعترفون أن وطنهم بيع بالكامل وما عاد الوطن يملك إلا الفتات وحتى هذا الفتات في طريقه إلى البيع ولا يمكن أن يتوقف ذلك إلا إن وجدت أصوات تطالب بمنع ذلك. كما يعترفون بفقدان الوطن لأصول المواطنة الصحيحة من حيث تساوي الفرص لجميع المواطنين، كل حسب علمه وجهده وعطاءه. يعترفون أن مجموعة متنفذة من أصحاب المال التي تزاوجت مع بعضها البعض بالزواج المدني العادي أي بالتصاهر وخطبة النساء، ثم أحلّت لنفسها ما حرمته على غيرها واستأثرت بخيرات وثروات الوطن، وصادرت حق البقية في العيش الكريم والتمتع بحقوق مادية ممكنة بناء على ما يوجد في أرض الوطن من ثروات وإمكانات، ثم سياسية كفلتها لها كل الدساتير المحلية والعالمية.

أما إدعاء هؤلاء أن هذه التحركات تعيق الحياة الإقتصادية والتجارية فهو من قمة الملهاة المحزنة والمبكية في ذات الوقت. إن عدم إدراك هؤلاء أن البديل لتعطيل تبادل تجاري مؤقت هو ضياع وطن بأكمله وضياع حقوق أجيال قادمة. ناهيكم عن عدم حقيقة هذه الإدعاءات والتي يرددونها كأبواق خلف أصحاب استمرار هذا الفساد أو المنافقين للنظام. ففي أحداث دوار الداخلية يومي الخميس والجمعة الماضيين، كان ضمن منطقة الإعتصام ثلاث محلات تجارية فقط هي محل كفتيريا باع قهوة وشاي وعصائر ما لم يبعه خلال أسابيع، وكان هناك صيدلية باعت من أدوية الرشح والمعدة وغيرها ما لم تبعه على مدى أسابيع أيضا، وثالث المحلات كان تاجر خلويات باع بطاقات الشحن ومستلزمات الخلويات ما استلزمه لطلب المزيد من البضائع لتلبية الطلب المفاجيء والكبير على بضاعته، ولم يكن هناك اي محلات أخرى في نطاق المنطقة المعنية بالإعتصام. أما تعطل أنظمة السير ووصول الناس إلى أعمالهم فقد كانت كذبة مضحكة، فقد كان وصول الناس إلى مكان التجمع أسهل بكثير من الإلتفاف على المكان الذي أقامته الحشود المضادة والتي تولت تنظيمها وإحضارها جهات رسمية من خارج عمان وجمعتها في منطقة حدائق الحسين وقد شهدت كلتا المنطقتين بنفسي.

أما شكل الأردن ومظهره أمام المجتمع الدولي فقد أعطت هذه التحركات صورة جميلة حضارية للوطن خاصة عندما كانت أجهزة الأمن توزع العصائر والماء البارد على المعتصمين، بينما عكست محاولة القضاء على هذه التحركات صورة غاية في البشاعة عن الديموقراطية وحقوق المواطنة أمام المجتمع الدولي.

وما كان مخزيا أيضا هو تصريحات المسؤوليين الكبار والكبار جدا في انتقاد هذه التحركات ووصفها بالمخلة بالقانون والمسيئة للمصلحة العامة، وأنها ستقوم بمنعها، ثم عادت في اليوم التالي لتشيد بها وتعترف بها بمجرد أن صرّح جلالة الملك المعظم أنه مع هذه التحركات ويؤيدها ويريد أن يشاهدها ويستمع إليها ومستعد لأن يتقبل ما تخرج عليه من قرارات. بل منعت الإعتداء عليها ووفرّت لها مكانا واسعا ومناسبا.

ما لا يدركه المعارضون لهذه التحركات أنها أي الإعتصامات والمسيرات هي أولا حق من حقوق المواطنين ويجب أن لا يتخلوا عنه لأي سبب من الأسباب حتى لو قاومته الحكومات والمتنفذين والمنتفعين وتجار الوطن الذين باعوه هو، تاجروا به ولم يمارسوا تجارة مشروعة فيه. ما لا يدركه هؤلاء أن الهدف من هذه التحركات هو لمصلحتهم هم قبل مصلحة أي أحد آخر. لمصلحة أولادهم وأحفادهم والأجيال القادمة. وما لا يدركه الجميع أيضا أنه لا بد من أن يكون هناك ضحايا وشهداء للمصلحة العامة. ما همّ لو سقط بعض الأبطال؟ ما همّ إن خسر بعض التجار بعض المال هذا إن كانت المصلحة العامة هي المطلب والهدف الأساسي. إن امتداد هذه الثورات، وأقول عنها ثورات وأعني ما أقول، على مدى أسابيع وحتى أشهر لا يشكل أهمية في عمر الشعوب. إن كل الثورات في أوروبا وأمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية، استغرقت سنين عدّة حتى حققت ما وصلت إليه في حقها بالديموقراطية والمواطنة والمحافظة على المال العام. إن القضاء على نظام الأباطرة في روسيا والنظم الإستبدادية في فرنسا واسبانيا والأرجنتين وفنزويلا والهند وفي كثير من دول العالم، لم يتم بين ليلة وضحاها ولم يتم بدون ضحايا تقبلتهم هذه الشعوب وسجّلتهم في سجل عظمائها وشهدائها. الثورة المصرية الحديثة عطلت ميدان التحرير في القاهرة وعشرات الميادين في مدن مصرية أخرى حيث عصب الحياة وعماد حياة تجارية حقيقية وحيث هناك بنوك وشركات عالمية ومع ذلك لم يتذمر إلا القلة من تعطل الحياة التجارية لأنهم يعلمون أنه بدون هذه الحركات فإن الحياة التجارية تضيع إلى الأبد بعد ضياع الثروات ومقدرات الوطن. تكررت هذه التحركات في تونس وليبيا واليمن ولم نسمع هذه الحجة السخيفة بتعطل الحياة التجارية أو وصول الناس إلى أعمالهم. فمن كان يرغب في الوصول إلى عمله كان يستطيع إتخاذ العشرات من الشوارع الجانبية الإلتفافية.

في التاريخ ثورات استمرت لعشرات من السنين، لكنها وصلت الآن لحماية أوطانها من الفساد والفاسدين، واستطاعت هذه الشعوب أن تحصل على حقوقها السياسية وحقوق المواطنة ولذلك فنحن لا نراها الآن تقوم بهذه الثورات إلا عندما يلاحظ مواطنوها أن حكوماتهم تمارس أفعالا لا يوافقون عليها وأن ممثليهم في هذه الحكومات لا يقومون بالعمل على إيقاف الحكومات عن ممارسة تلك الأفعال.

ومن زاوية أخرى، يخطيء كل من يعارض هذه التحركات في محاولة للنفاق بل والمبالغة في النفاق للنظام. إن مطالبة النظام بمطالب تصب في مصلحة الوطن هي حماية لهذا النظام وليس تعد عليه. عندما يتم حماية الوطن من الإفلاس المادي فإن النظام يكون محميا بإرادة الشعب، أما عندما ينتشر الجوع والفقر والبطالة وتضيع أسس تطبيق المواطنة الحقة‘ فإن النظام يصبح مهددا بالإنهيار. الشعوب إن ثارت فعلا فهي أكثر من سيل هادر يأخذ في طريقه الأخضر واليابس، الصالح والطالح، ولذلك مثلا سارعت بعض الأنظمة كالنظام في المغرب لمطالبة الحكومة بإتباع إصلاحات معينة لا تختلف أبدا عن مطالب التحركات في الأردن لأنه يعلم أن شعبه لو تململ فقط فلن يبق لا نظام ولا حكومة وستكون الخسائر جمّة ولن يكون بالإمكان إصلاح ما يتم خسارته إلا بشكل آخر لا مكان فيه لهذا النظام نفسه. هذه هي دروس الشعوب التي علمتنا إياها على مدى تاريخ طويل.

وعودا على عنوان المقال، فقد طالبت جموع المتظاهرين والمعتصمين والسائرين في مطالب معينة. إدّعى البعض أنها تجاوزت الحد الأحمر وأنها بالغت شططا في مطالبها. هذه هي مطالبها وهذا هو سقفها، فما هو سقفكم أنتم؟ إلى أي مدى يصل مدى تجاوبكم معهم. لا تكفي تصريحات بحق هذه الجموع بالتظاهر والإعتصام ولا يكفي القول أنه سيتم التجاوب مع مطالبهم وتلبية نتائج الحوارات الوطنية التي تنتج عن حراكهم. يجب أن يكون هناك تصريح ما من أعلى السلطات في الوطن بعرض إصلاحات وتعديلات في نقاط محددة. ومن يدري فقد يكون حجم هذه العروض أكبر من بعض المطالب نظرا لأنها تتماشى مع الحق والمنطق، وما هو مطبق في المجتمع الدولي. الجماهير لا تطالب بالمستحيل ولا تريد أكثر مما يحفظ لها وطنها وحقوق المواطنة الحقة. الجماهير لا تشحد ولا تطلب كرما أو منّة ولا تريد شيئا مستحيلا ولا جديدا ولا غريبا. لا تريد أكثر مما هو معروف في كل أنحاء العالم المتحضر. إن بعض القرارات والتعديلات قد تكون أكثر من كافية في تلبية مطالب الشعب وعلى أصحاب القرار أن يسارعوا إلى عرض هذه التعديلات قبل أن تقع الفاس في الراس ويصبح إصلاح ما تم كسره من رابع المستحيلات ثم نبدأ جميعا بالترحّم على ما فات وعلى وطن أضاعوه وأي وطن أضاعوا.

 walidsboul@hotmail.com