17 رمضان الأول ..

بســم الله الرحمن الرحيم

نزلت " يا أيها الذين امنوا كتب عليكم الصيام " في السنة الثانية للهجرة. فلما جاء رمضان , صاموا , فكان أول صيام للمسـلمين. فلما كان صوم يومهم السـابع عشر من رمضانهم الأول وقعت معركة بدر الكبرى, و كأن الصيام مقدمة ضرورية و مدرسة تعبوية للجهاد, قال تعالى " يا أيها الذين امنوا كتب عليكم القتال".
يوم بدر , السابع عشر من رمضان الأول, يوم من أيام الله ... يوم من حياة المصطفى صلى الله عليه و اله وسلم .. يوم من حياة الصحابة الكرام .. إنه يوم رائع من حياة المسلمين.
ذُكر في السـيرة النبوية الشريفة أن عيراً لقريش أفلتت من النبي صلى الله عليه و سلم في ذهابها من مكة إلى الشام, فلما قرُب رجوعها من الشام إلى مكة, بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم طلحة بن عبيد الله و سعيد بن زيد إلى الشمال ليقوما باكتشاف خبرها , فوصلا إل الحوراء و مكثا حتى مر بهما أبو سفيان بالعير فأسرعا إلى المدينة و أخبرا رسول الله صلى الله عليه و سلم الخبر.
كانت العير تحمل ثروات طائلة لكبار أهل مكة و رؤساءها : ألف بعير بأموال لا تقل عن خمسين ألف دينار ذهبي, و لم يكن معها من الحرس إلا نحو أربعين رجلاً, إنها إذن فرصة ذهبية للمسلمين ليصيبوا أهل مكة بضربة إقتصادية قاصمة تتألم لها قلوبهم, لذلك أعلن الرسول صلى الله عليه و سلم في المسلمين قائلاً : هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله يُنفلكموها.
لم يعزم صلى الله عليه و سلم على أحد بالخروج, بل ترك الأمر للرغبة المطلقة, لأنه لم يتوقع أنه سيصطدم بجيش مكة ـ بدل العير ـ هذا الاصطدام العنيف في بدر , و لذلك تخلف كثير من الصحابة في المدينة و لم يُنكر صلى الله عليه و سلم على أحد تخلفه عن هذه الغزوة.
دفع القائد الأعلى صلى الله عليه و سلم لواء القيادة العامة إلى مصعب بن عمير و كان هذا اللواء أبيض اللون, و أعطى راية كتيبة المهاجرين إلى علي بن أبي طالب و اسمها ـ العقاب ـ و كانت سـوداء, و أعطى راية كتيبة الأنصار إلى سـعد بن معاذ و كانت أيضا سـوداء, و هم جميعا قرابة 300 رجل.
سار رسول الله صلى الله عليه و سلم بهذا الجيش غير المتأهب فوصل خبره إلى أبي سفيان فساحل بالقافلة و أرسل ضمضم بن عمرو الغفاري إلى مكة مستصرخاً لقريش للنفير إلى عيرها.
نقلت استخبارات جيش المدينة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم خبر نجاة العير و وصول النفير الذي بلغ أكثر من ألف رجل, فتأكد لديه أنه لم يبقَ مجال لاجتناب اللقاء الدامي و أنه لا بد من إقدام يُبنى على الشجاعة و البسـالة و الجرأة و الجسارة لأنه لو ترك جيش مكة يجوس خلال تلك المنطقة فسيكون ذلك تدعيماً لمكانة قريش العسـكرية و امتداداً لسلطانها السياسي و اضعافا لكلمة المسلمين و توهيناً لها, بل ربما تبقى الحركة الإسلامية بعد ذلك جسداً لا روح فيه, فيتجرؤ عليها كل من فيه حقدٌ أو غيظٌ أو طمعٌ أو نفاق.
و التقى الجمعان .. فأوحى الله تبارك و تعالى إلى ملائكته "أني معكم, فثبتوا الذين امنوا, سأُلقي في قلوب الذين كفروا الرعب " و أوحى إلى رسوله "أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين".
أغفى رسول الله صلى الله عليه و سلم إغفاءةً واحدة ثم رفع رأسه و قال : أبشر يا أبا بكر, أتاك نصر الله, هذا جبريل آخذٌ بعنان فرسه يقوده و على ثناياه النقع. ثم خرج صلى الله عليه و سلم من باب العريش و هو يثب في الدرع و يقول: سيُهزم الجمع و يولّون الدبر. ثم أصدر أوامره الأخيرة إلى جيشه بالهجوم فقال : شُدوا, و الذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجلٌ فيُقتلُ صابراً محتسباً مقبلاً عير مدبر إلا أدخله الله الجنة .. قوموا إلى جنة عرضها السـماوات و الأرض.
قال عُمير بن الحمام بخ بخ , ثم أخرج تمرات فجعل يأكل منهن, ثم قال :لئن أنا حييتُ حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياةٌ طويلة , فرمى بها ثم قاتلهم حتى قُتل.
أما عوف بن الحارث "ابن عفراء" فقال يا رسول الله ما يُضحك الرب من عبده؟ قال: " غمسه يده في العدو حاسراً " , فنزع عوف درعا كانت عليه فقذفها ثم أخذ سيفه فقاتل حتى قُتل.
كانت الهزيمة الساحقة من نصيب المشركين أعداء الله و أعداء الإسلام, و من نصيب صاحب الغطرسة عدو الله فرعون هذه الأمة " أبي جهل" فقُتل مع من قُتل من المشركين و أُسر من أُسر و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم " من لقي أبا البختري فلا يقتله" ذلك لأنه كان أكفَ القوم عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في مكة و كان لا يؤذيه و لم يبلغه عنه شيءٌ يكرهه , و كان ممن قام بنقض صحيفة المقاطعة.
بعد انتهاء المعركة, رأى مصعب بن عمير أخاه الذي كان يقاتل في صف المشركين أسيراً بيد أحد الأنصار يشد يديه, فقال مصعب للأنصاري : شُد يديك به فإن أُمه ذات متاع ـ غنية ـ لعلها تفديه منك, فقال الأسير لأخيه مصعب : أهذه وصاتك بي ؟ , فرد مصعب بقوله : إنه أخي من دونك.
لقد كانت أول سبعة عشر يوماً صياما في حياة المسلمين و كانت فيها أول معركة فاصلة فارقة بين الحق و الباطل " لقد نصركم الله ببدر و أنتم أذله" فهنيئاً لكم بالشهادة و بنصر الله أيها المسلمون المجاهدون الأبطال .. ثم نزلت " و ما رميت إذ رميت و لكن الله رمى".