الديمقراطية والحرّيات والوضع الراهن

لن تسود الحريات العامة، ولا يمكن أن تتحقق إلا إذا أقمنا مجتمعًا مدنيًا يتبنى حرية التفكير، ويؤمن بالتغيير، يتقبل فيه الفرد ما يقوله الآخر بهدوء، حتى لو اختلف معه في الرأي، ويؤمن بما قاله الفيلسوف الفرنسي فولتير قبل الثورة الفرنسية: قد أختلف معك في الرأي ولكني مستعد أن ادفع حياتي ثمنا لحقك في التعبير عن رأيك. فكل الآراء مقبولة، إلا إذا تعدّت على حرية الآخرين، أو شكلت تهديدا مباشرا للأمن القومي، أو خالفت القانون، وللأسف فإن عددا محدودا من الناس في مجتمعنا يراعون هذه الشروط، وهذه المبادئ لم تَسُد في مجتمعات ومناطق أخرى عديدة من العالم، وبعض الأمم نهضت وتقدمت من دون ديمقراطية وحريات كاملة.

بعض الكتاب وأصحاب الأصوات العالية، يتحدثون عن الديمقراطية ومبادئ حرية الرأي وحرية الإعلام، ويريدون تبنيها كاملة، مع أنهم يكيلون للغرب، الذي طورها، أنواع الاتهامات كلها. والغريب أن بعض أصحاب هذه الأصوات العالية يهاجمون الآراء التي لا تعجبهم ويوجهون لأصحابها الانتقادات القاسية، ولو قدّر لهم أن يتسلموا السلطة لانقلب موقفهم تماما على هذه المبادئ. هناك مجموعتان سياسيتان في بلادنا ومنطقتنا تهمهما هذه المسألة: المجموعة الأولى تتألف من الأحزاب والمنظمات التي تؤمن بالإسلام السياسي، وتعلن أن العودة لتطبيق ما تسميه الإسلام الصحيح أو مبادئ "السلف الصالح" هو الحل الوحيد، ليس فقط لرفعة المسلمين وتقدمهم بل لخلاص العالم كله من "الطغاة" الذين يعصون الخالق وينشرون الفساد في الأرض. والحقيقة أن الديمقراطية والحريات العامّة لا يمكن دمجها ضمن مبادئ هذه المجموعة وأفكارها، فقبل عقدين فقط كانت ترفض الديمقراطية وتصفها بأنها من ألاعيب الغرب، ولكن همّ هذه المجموعة أن تستولي على السلطة بأية طريقة كانت. والمجموعة الثانية تتألف من اليساريين القدامى والقوميين العرب، واللبراليين والعلمانيين الذين يمثلون ربما واحد من المئة أو أقل من المجتمع. وهؤلا الآن ضعفاء، عددا وعدة، وليس لهم أمل في تكوين قاعدة شعبية عريضة تعطيهم الأمل في الحكم.

أما الإسلام السياسي، فنجحت نسخة منه في حكم إيران من دون اعتناق حرية الرأي والتعبير، فقد تأسست الدولة الخمينية عام 1979 على أساس مبدأ ولاية الفقية، وبعد أقل من عام أعلنت العراق الحرب عليها، مدعومة من الغرب والدول الخليجية، لأن الأخيرة خافت من تصدير الثورة الإسلامية إليها، وخلقت هذه الحرب في نفوس الإيرانيين روح التحدي القومية والتصميم على بقاء دولتهم، وعلى التمسك بها وبمذهبها، وعلى أن يبنوا قوتهم العسكرية، ومن ضمنها النووية، مقابل القوى العربية المضادة التي حاربتهم. ورفض النظام الإيراني دعوات العالم الخارجي كلها لإطلاق حرية الرأي والتعبير، ونجح في هذا الرفض وفي إقناع الشعب بالصبر وضرورة مقاومة العقوبات الاقتصادية الغربية الهائلة التي فرضت على إيران، وها هو يوشك أن ينجح في اعتراف الغرب بحقه في تنمية قدراته النووية، حتى ولو تحت رقابة دولية. هل كانت حرية الإعلام والتعبير ستحقق للإيرانيين أكثر من ذلك؟

منذ سقوط الإتحاد السوفييتي عام 1989 وتفرق دوله، التي بقيت فقيرة خلال سبعين سنة من دكتاتورية البروليتاريا، بدأت الحركة الاشتراكية في العالم بالتراجع، ما عدى الصين، فلها قصة أخرى. فقد بقي وضعها الاقتصادي ضعيفا حتى تسلم دينغ هسياو بنغ الحكم، منذ نهاية السبعينيات حتى وفاتة عام 1997، وأدخل تغييرات اقتصادية رأسمالية واجتماعية جعلت الصين من أضخم القوى الاقتصادية في العالم، وهناك الآن 220 ملياردير صيني. وبرغم الدعاية الغربية حول انعدام الحريات والإعلام الحر في الصين، وحمْلة الغرب الإعلامية المتجددة، والمتعلقة بسحق قوات الأمن الصيني للمتظاهرين الشباب الذين طالبوا بالديمقراطية في ساحة "تيان آن من" عام 1989، في عهد دينغ هسياو بنغ نفسه، إلا أن النظام هناك استطاع أن يحافظ على الاستقرار في البلاد ويبدأ بالتنمية ومحاربة الفساد، ولم يأبه لدعاية الغرب وحملاته. ولا ندري هل كان بإمكان الصين أن تحرز كل هذا التقدم وتبقى متماسكة لو أنها رضخت للضغوط الغربية؟

والآن لنعود إلى منطقتنا. منظمات الإسلام السياسي التي رفعت شعار الحرية في ثورات الربيع العربي، وتتألف من الإخوان المسلمين بمنظماتهم العديدة، وآلاف من التنظيمات الإسلامية في الشرق الأوسط وشمال افريقيا، والذين لا يمكن أن يمنحوا الشعوب حرياتها لو استلموا السلطة، يشْكون دائما من الظلم، ويطالبون بالسماح لهم أن يعبروا عن آرائهم، برغم أنهم يملكون آلاف القنوات الفضائية والمنابر الدعائية، وعلى رأسها الآن قناة الجزيرة القطرية – القسم العربي – التي لا تكف عن المناداة بالرأي والرأي الآخر، مع أنها متحيزة تماما، ولا تقبل، بل تستهزئ، بأي رأي لا يتفق مع سياستها التحررية المؤيدة للإسلام السياسي وجبهة النصرة وغيرها، والمعارضة للانقلاب في مصر.

أننا لسنا ضد حرية الإعلام والتعبير، وما ذكرناه أعلاه يثبت ذلك، غير أن هناك نقطتين يجب أن تؤخذا بالاعتبار. الأولى أن مجتمعنا، نظرا لتركيبته الخاصة المغلقة والحساسيات القبيلية والاجتماعية وطبيعته الدينية المحافظة، حديث العهد بمسألة حرية الرأي والتعبير، ولا يتعامل عموما مع المعلومات بطريقة عقلانية وتحليلية، ويقفز الكثيرون لاستخلاص النتائج التي يريدونها من هذه المعلومات بناء على عواطفهم ونزعاتهم الداخلية غير الحيادية، فنظرتهم للأمور ذاتية، أي أنها ليست موضوعية. وفي هذا العصر، عصر ثورة المعلومات، يكفي أن يقرأ الناس إشاعة على الفيسبوك، أو على أية وسيلة اجتماعية أخرى، ليصدقوها ويتبنوها ويتصرفوا بناء على أنها حقيقة، محدثين بلبلة ومشاكل لا حصر لها تشغل في كثير من الأحيان سلطات الأمن. وعلى أية حال، لا نستطيع تطبيق الديمقراطية والحريات في الدول العربية التي تقاسي حروبا أهلية، أو في الدول المجاورة لها، وهي كثيرة. معظم اللبراليين والعلمانيين الذين يطالبون بحرية الرأي والإعلام الآن ليسوا على اتصال بالواقع، فهم متأثرون بالغرب والعديد منهم درسوا هناك، لا بل يعيشون هناك. والنقطة الثانية أن الإعلام المنضبط، الذي يراعي حساسية مجتمعنا تجاه أمور كثيرة، هو المطلوب الآن، وأن الهدف الأسمى هو إدامة الاستقرار وأخذ الحيطة خاصة في هذه الظروف العصيبة.

نحن في حالة حرب، اعترفنا بذلك أم لم نعترف، وعندما تكون الأمم في حالة حرب تكون هناك حكومة حرب أو طوارئ ويستغني الناس عن كثير من الكماليات، ومنها بعض الحريات العامة والجدل الأكاديمي.