عرب اليونان وصندوق النقد الدولي

رافعاً الشعار ذاته تقريباً الذي يقدمه نظراؤه من الشعبويين العرب باعتباره سياسة نهائية "متكاملة!"؛ أي قطع العلاقة مع صندوق النقد الدولي وسواه من المؤسسات المالية الدولية "الإمبريالية"، خاض من سيصبح لاحقاً رئيس وزراء اليونان ألكسيس تسيبراس، وائتلافه "سيريزا"، الانتخابات العامة الأخيرة في اليونان مطلع العام الحالي. إذ كان شعار حملة الائتلاف الانتخابية إنهاء سياسة التقشف التي تم فرضها سابقاً على البلاد، من قبل "الصندوق" والبنك المركزي الأوروبي والاتحاد الأوروبي، شرطاً لاستحقاق دفعات القروض الضرورية لإنقاذ اقتصاد اليونان المنهار.
رغم ذلك، بدا أن ثمة فرقا جوهريا بين الحالتين الشعبويتين العربية واليونانية، تمثل في تصميم تسيبراس وائتلافه على نيل الأغلبية البرلمانية (والشعبية)، بحيث يكون ممكناً بها مواجهة الدائنين لتغيير موقفهم والرضوخ لمطالب اليونان. وهو ما كان؛ إذ نال الائتلاف 149 مقعداً من أصل 300 مقعد يشكلون البرلمان ككل. وليس أقل أهمية عن هذا الفوز، معرفة جميع الأطراف الإقليمية والدولية المعنية، بغض النظر عن موقفها من سياسة التقشف، أن إفلاس اليونان سيعني ارتدادات اقتصادية موجعة إلى خارج حدودها، لاسيما في دول جنوب أوروبا، ومثل ذلك، ربما، خطر عجز أثينا، بسبب نقص الموارد المالية، أو حتى تقاعسها عمداً، عن ضبط موجات اللاجئين عبر البحر الأبيض المتوسط، بما يهدد القارة الأوروبية ككل.
لكن مع هذا الخليط المثالي، المتمثل في التأييد الشعبي المتأتي بانتخابات حرة ونزيهة، وأهمية جيو-استراتيجية، فإن حصيلة جهود "سيريزا"، والتي عرفت حتى ابتزازا للاتحاد الأوروبي خصوصاً، لم تكن إلا القبول بشروط الدائنين كما هي أصلاً، أو مواجهة خيار إفلاس اليونان. بعبارة أخرى، لقد صار الائتلاف الشعبوي أسيراً لشعاره بإنهاء سياسة التقشف، والذي هو محض شعار كما يبدو الآن. ولذلك، فلم يجد تسيبراس إزاء ذلك إلا اللجوء إلى استفتاء شعبي على خطة الإنقاذ الأوروبية، التي يُفترض أن "سيريزا" فاز بالانتخابات الأخيرة على أساس رفضها! ومن ثم يتمكن السياسيون اليونانيون الحاكمون من إلقاء اللوم على الشعب إن قبل الخطة أو رفضها، فيما لا تضطر الحكومة للاستقالة أوالدعوة إلى انتخابات مبكرة!
لكن ماذا لو صوتت أغلبية اليونانيين بـ"لا" في الاستفتاء المزمع، كما طالب رئيس الوزراء ذاته؟ هنا نعود إلى نقطة الالتقاء مرة أخرى مع الشعبويين العرب. إذ ليس لدى الحكومة اليونانية أي خطة بديلة، بل إن الأشهر الخمسة الماضية، كما تُظهر التقارير، أضرت بشكل كبير وطويل المدى بالاقتصاد اليوناني حتى من دون الوصول إلى نقطة الإفلاس. لأن سياسة الحكومة كانت تقوم على الرفض والتحدي والابتزاز، وليس محاولة الاستقلال الاقتصادي الحقيقي.
مفيد التذكير ببدهية أن الجميع بلا استثناء، بما في ذلك الأنظمة المتهمة بالتبعية والعمالة للغرب، لا يريدون اللجوء إلى صندوق النقد الدولي وسواه من مؤسسات التمويل الدولية، ودائماً لغايات الشرعية؛ أكانت شرعية الدولة الريعية أم شرعية الاستقلال التام. لكن السؤال يظل عن سبل تحقيق شرعية مستدامة راسخة، وليس طارئة شعاراتية، لا تلبث أن تتبدد تماماً بعد أن تكلف الكثير، كما يُظهر النموذج اليوناني الحالي الجدير بالاتعاظ من تجربته.