محاكم "فيسبوك"!

ينصب نفسه قاضيا، لكن ليس من مهمته التقصي والتحقيق والتدقيق، وإنما فقط توجيه أصابع الاتهام، لتتبعها سريعاً أحكام نهائية بالإدانة والتجريم، ولربما تنفيذ الحكم في محكمته كما يراها بفكره ومنظوره وقناعته! كل ذلك وهو يجلس وراء شاشته على "فيسبوك"، مترصدا الأحداث، متلهفاً على النطق برأيه/ حكمه النهائي بشأنها.
ذلك للأسف واقع حياة كثير من الأشخاص نشاهد ونراقب تحليلاتهم "الفيسبوكية" لكل الأحداث الآنية التي تتصدر صفحاتهم كمادة دسمة، يتناقلونها كما لو أنهم "أبطال" بعضلات "وهمية"، إذ ينسجون كلمات وجملا وسيناريوهات، قوتهم بها تكمن بكم التعليقات و"اللايكات" التي يحصدونها!
في الأخبار الأخيرة بما يخص القضية التي أثارت الرأي العام حول اختفاء الفتاتين شيماء وجمانة، ولاحقا دعاء، كانت الساحة "الفيسبوكية" تعج بأخبار لا تنتهي عن مصير هؤلاء الفتيات. والأغرب هم من نصبوا أنفسهم قضاة وجلادين في الوقت نفسه، فتقدموا باعتبارهم خبراء في مثل هكذا قضايا، يحللون ويضعون احتمالات، وصل بعضها حد نسج قصص خيالية. 
وكثير من هؤلاء بدأ يرمي سهام الاتهام عليهن وعلى سلوكهن، والطعن بأخلاقهن وبالتربية "السيئة" التي حظين بها. وآخرون صاروا متخصصين بتحليل ملامح وجوههن؛ إن كانت تحمل البراءة أم القوة والانحلال وانعدام الأخلاق!
ولعل كثيراً ممن "اطلعوا على الغيب" لاغتيال فتيات قاصرات، معنوياً، إنما يجدون بذلك فرصة لإخفاء تصرفاتهم السلبية وغير المسؤولة، موجهين النقد القاسي والمسيء لغيرهم من دون أي مبرر منطقي أو حجة حقيقية لديهم، فهم الأفضل وعلى صواب دائما!
في الحوادث الأخيرة، ظهر العديد من "الثرثارين"، فقط لتسجيل حضورهم والتأكيد على عبارة "أنا هنا"، بعيدا عن حوار حقيقي هادف يساهم في حل القضية، ويثري العقل ويحلل أساس المشكلة ويضعها في مكانها الصحيح. فالقضية الأهم بالنسبة لهم الترصد، بانتظار حدث ما يتيح لهم فرصة طرح آرائهم وإن كانوا لا يفقهون شيئا!
مواقع التواصل الاجتماعي، وللأسف، سهلت على كثيرين الطعن في أعراض الناس، وانتهاك خصوصياتهم، ونشر صورهم، والحكم على أخلاقهم والتدخل بتفاصيل حياتهم، بنشر آرائهم على الملأ بأحكام مسبقة، بعيدا عن القيم والمبادئ والأخلاق! وتجد البيئة الخصبة لها مع غياب الضوابط التي تحمي الأفراد ممن يكونون أحيانا سببا مباشرا في مضاعفة المشكلة وتعقيدها، ووضعها في إطار مرعب..
يبدو أن التحليل السلبي و"الجانب الشرير" ينتصر، وللأسف، في أي رواية تطرح، وتجد لها العديد من الرواد والمشجعين، والمصدقين و"المبصمين" عليها بسرعة فائقة! في حين يغيب عنا في أغلب الأحيان "حسن النية" والإيجابية التي تلاشت كلما تقدم الوقت.
فكم عدد "اللايكات" التي يستحقها "بوست" مؤذ معنويا، ومدمر نفسيا، ومخجل اجتماعيا، وخال من النبل والمعايير الأخلاقية، بل جاء لمجرد "إبداء رأي" مستهتر بالحقيقة والصواب؟!
"فيسبوك يسبب لك الإحباط"؛ هكذا أكدت واحدة من أحدث الدراسات. مضيفة أننا لو غادرنا "فيسبوك" الآن، فإننا لن نفقد شيئا، بل سنكسب أنفسنا، لأننا في معظم الأحيان نتعامل مع أشخاص عديمي الفائدة؛ بما يبثونه من معلومات عديمة الفائدة!
فريهان الحسن - الغد