تسميم لحوم أم "تسميم المجتمع"

أتلف مسلخ عمان 18 ألف كيلو غرام من اللحوم الطازجة والمبردة خلال الأيام السبعة الأولى من رمضان بعد اكتشاف عدم صلاحيتها للاستهلاك البشري، وأغلقت "الأمانة" 167 مؤسسة تجارية، وتم ايقاف "84" مؤسسة تجارية اخرى، واتلفت في نفس الفترة 3021 كيلوغراما من المواد الغذائية غير الصالحة للاستهلاك، ونحو 7402 ليتر من العصائر المختلفة، وحررت 266 مخالفة، منها 30 مخالفة تحت بند مكاره صحية.
وحتماً أن أغلب أصحاب ومدراء هذه الملاحم والمؤسسات الـ 167 كانوا مع بدء الشهر الفضيل قد علَّقوا على ابوابهم وفي مكاتبهم ملصقات لآيات قرآنية وأحاديث نبوية تتحدث عن الصدق والنزاهة وفضائل الشهر الكريم ! وربما يذهب اغلبهم أول الليل لأداء صلاة التراويح حاملاً مسبحة كبيرة في يده !
وهي مشكلة الكثيرين الذين استطاعوا بمعادلة غريبة أن يفصلوا بين تجارتهم ومصالحهم وبين الدين والأخلاق، الى حدّ أن يقدموا للصائمين بضاعة مغشوشة، فما بالك بالتبرعات المجانية التي يقدمها هؤلاء للفقراء للتمويه على صورتهم، وتمرير تجارتهم.
كنتُ اتمنى لو ان الأجهزة العقابية تخصص جداراً في وسط العاصمة تعلق عليه صور هؤلاء الذين يسمّمون طعام المواطن الغلبان، المواطن الذي يتردد ويحسب ويفكّر مائة مرة قبل أن يخرج عشر ليرات من جيبه لشراء طبخة النهار أو إفطار عائلته، دون أن تنكسر موازنته الشهرية.
المواطن الذي يحسب راتبه بالقرش والدينار ويحتفل مع اطفاله بـ"طبخة اللحمة" كحدث سعيدٍ ونادر، من حقّه أن يجد من يدافع عن وجبته بكل جدّية وشراسة، وأن يضمن له سوقاً نظيفة.
فالرقم الذي نتحدث عنه (167 مؤسسة في 7 أيام) في مدينة صغيرة مثل عمان وفي شهر رمضان، هو رقم مروّع، ويدعو للقلق، وعلينا ان نتوقف عنده كثيراً.
وليس من باب المبالغة أن نتحدث هنا مرة أخرى، وعاشرة، عن خراب المجتمعات، الذي يبدأ بهكذا إشارات، ليس من الحكمة أبداً تجاهلها، أو المرور عنها كمجرد "مخالفات غذائية"، فحين يستسهل جزء من الناس تسميم لقمة الناس فذلك يعني أن "الأنسنة" بدأت بالضمور، ولم يعد ذلك الودّ الذي ألفناه وتربّينا عليه منتشراً بين الناس، لم تعد تلك البشاشة الصباحية حين يلتقي الناس على مواقف الباصات أو في المخبز، وحين كان مرض الجار يقلق الجار، وحين كانت "صحة المجتمع" تعني الناس تماماً كما تعنيهم "صحة الأفراد".
التجّار الذين فعلوا هذه الجريمة يجب ان يحاكموا بتهمة "تسميم المجتمع" وليس "تسميم الغذاء"، فالقصة أبعد أثراً من فساد وجبة طعام.