الصحافة .. الصحافة ..!

عندما بدأت بجمع مادة صحافة القرن التاسع عشر الميلادي من مصادرها، كنت اخطط لمشروع كبير لإعادة كتابة تاريخ الأردن ما بين سنوات 1876 وحتى تأسيس إمارة شرقي الأردن، عام 1921 م، وكنت على اطلاع على حجم المادة وإمكانات الإفادة منها، وبالتأكيد كان هاجسي هو استخدام هذا المصدر بمنهجية عالية، نظرا لغناه في رفد المرحلة، مع علمي بأن لهذا المصدر محاذيره، وكان عليّ أن أفرز بين الخبر والمقالة، وبين الصحيفة الرسمية والأهلية، وبين صحافة مصر وبلاد الشام في كل من بيروت ودمشق وحلب وصحف القاهرة والإسكندرية، وبينها وبين صحف المهجر .. وكان هاجسي رصد ميول أصحاب هذه الصحف وتأثيرها على المادة .. وتبين لي أن الصحافة في تلك الفترة كانت من أهم مصادر المعلومة والثقافة في آن، وكان انتشارها في الوطن العربي أكبر مما نتصور، وبسبب ضخامة حجم المادة اخترت صحفا تمكنني من رصد المكان والعلاقات بين الدولة والأهالي، والأحوال الاقتصادية والأمنية والاجتماعية، وتبين لي أن هذا المشروع لن يتوقف على إصدار الكتاب، وأن عليّ أن أستكمله بصورة أشمل . تستوقفني صحافة اليوم وبعض أصحاب الأقلام، وأقارن بين ما وجدته وبين بعض ما يدور على ساحتنا في عالم الصحافة والنشر الإلكتروني، كان صاحب القلم يعرف حدوده ويلتزم بالقضايا التي تؤرق الناس، ولأن عدد الصحف والكتاب كان محدودا، فقد احترم الكاتب موقعه، ولم أجد صحفي يبيع قلمه ليخدم صاحب نفوذ أو أجندة خاصة، كانت المساحات المتاحة محدودة ومكلفة فالصحف تسافر أياما عبر البحر والبرّ لتصل إلى المشتركين، وكان البرق من وسائل نقل الأخبار وهو أسرعها، وكان صاحب الخبر يتعب للحصول عليه، ويعرف عندها قيمة المعلومة وموقعها، كانت الصحافة سيدة الثقافة وصناعة الرأي رغم أن الأمية كانت منتشرة، وكانت الصحافة تقود النخبة والنخبة تقود الصحافة أيضا، وكان صاحب القلم يحترم القارئ، والقارئ يحترم بالمقابل أصحاب الأقلام ..وأظن أن عالم الصحافة آنذاك كان مدرسة للتفكير وتكوين الرأي وتشكيل الفكر السياسي، ومن هنا وجدت مصداقية مقبولة جدا في تعاملي مع صحافة القرن التاسع عشر، ووجدت عمالقة شكلوا فكر المرحلة وحملوا أقلاما نظيفة تحترم نفسها ووطنها وتنطق عن فكر . أقدرّ الآن التساؤلات التي واجهتني عن مصداقية الصحافة، وللحق فقد كانت صورة الصحافة الصفراء والموجهة وأصحاب الأقلام المأجورة هي الصورة التي تخيف القراء من استخدامي للصحافة مصدرا في كتابة التاريخ، وظل التساؤل الذي يواجهني مصداقية الصحافة، فالقارئ اليوم بعد فتح المواقع الإلكترونية لكل من حمل قلما، أصبح لا يثق كثيرا بكثرة الأقلام، وبعضها توجهه أجندات معروفة .. ولكن كلّ هذه المخاوف لا تغطي على الأقلام النظيفة المحترمة، والتي يصح مستقبلا أن تستخدم في قياس الرأي العام، أقول كلّ هذا لاحترامي الكبير للصحافة ومحبتي لها ولأهلها، فهل يعي أصحاب الأقلام التي انفتح أمامها الفضاء الواسع، مدى خطورة ما يقولون ويكتبون ..؟ الصحافة رائعة وخطيرة أيضا، فلنعطها ما تستحقه ولا نسمح بتشويهها وتقزيم دورها النبيل ..إنها عظيمة فلا تتركوا للصغار فيها موقعا لا يستحقونه، فهي كما تعرفون ( صاحبة الجلالة ) التي تجلس على عرش معنوي لا مثيل له