ضحايا الاستهتار والإنكار
للعام الثاني منع المسلمون من الصيام في الصين. هكذا قال تقرير لوكالة «رويترز» للأنباء، تضمن معلومات تفصيلية عن إجراءات المنع، التي تمثلت في توجيه إخطارات رسمية لأعضاء الحزب الشيوعي الحاكم والموظفين والطلاب دعتهم إلى عدم صيام رمضان. كما تمثلت في التعليمات التي صدرت لأصحاب المطاعم في مناطق التجمعات الإسلامية بضرورة فتح أبوابها وتوفير الطعام للراغبين على مدى اليوم، وفي التعهدات التي أعلنها وروج لها الحزب بمنع السماح بممارسة أية شعائر دينية، خصوصا في مقاطعة سينكيانج في الغرب التي تعد أحد معاقل الأقلية المسلمة التي تنسب إلى قومية الويغور.
الخبر ليس مفاجئا تماما، لأن مسلسل الاضطهاد والأعمال القمعية التي تمارس ضد مسلمي الصين لم يتوقف طوال السنوات الأخيرة، التي شهدت تناميا في ارتفاع أصوات نفر منهم ومطالبتهم بحقوقهم كمواطنين وكطائفة لها خصوصيتها الدينية، وهي المطالب التي قولبت بالقمع واتهام المسلمين بالإرهاب تارة وبالدعوة للانفصال تارة أخرى. وحين اشتد القمع فإنه غذى الاحتقان ومشاعر التمرد فضلا عن نوازع الانتقام لدى المسلمين، الأمر الذي أدى إلى ظهور تجمعات متطرفة من أبنائهم، الذين قابلوا العنف بالعنف. ومن ثم قدم هؤلاء الضحايا في وسائل الإعلام بأنهم «إرهابيون»، وصارت أخبارهم تنشر في وسائل الإعلام العربي بهذه الصفة.
حدث ذلك في حين وقفت المؤسسات والمراجع الدينية في العالم الإسلامي متفرجة على ما يجرى ليس فقط بسبب تقاعسها التقليدي، ولكن أيضا لأن وصف تمرد المسلمين الذين عانوا من الظلم والاضطهاد بأنه «إرهاب» كان له دوره المهم في سكوت تلك المؤسسات والمراجع. التي آثرت الصمت كي تتجنب الاتهام بتشجيع الإرهاب.
لم يقف الأمر عند ذلك الحد، لأن السنوات التي برزت فيها حملات قمع المسلمين والتنكيل بهم شهدت تعاظم مؤشرات التبادل التجاري بين الصين والدول العربية فضلا عن الإسلامية. إذ أعلن في منتدى رجال الأعمال العربى الصيني الذي عقد أخيرا ببيروت أن حجم تجارة العالم العربي مع الصين في العام الأخير (٢٠١٤) وصل إلى ٢٤٠ مليار دولار، وهو رقم مهول وغير مسبوق. وجاء ذلك الإعلان على لسان السفير محمد صالح الذويخ سفير الكويت لدى بكين ورئيس اللجنة الاقتصادية في مجلس السفراء العرب بالصين.
هذه المعلومة تعني ان فتك السلطات الصينية بالمسلمين هناك، والتضييق عليهم حتى في عباداتهم كالصيام وأداء فريضة الحج، لم يؤثر قيد أنملة على الغزو الصينى للأسواق العربية. ولا يلام الصينيون على ذلك بطبيعة الحال رغم استهجان مسلكهم، إلا أننى تمنيت أن يسمعوا صوتا للمؤسسات والمراجع الدينية على الأقل يدعو السلطات الصينية إلى احترام حقوق المسلمين ومشاعرهم الدينية (لم أتوقع غيرة من الزعماء والدول المحسوبين على الإسلام والمسلمين)، ولكن حتى ذلك المطلب المتواضع الذي كان يمكن ان تنهض به المؤسسات الدينية لم يتحقق، وكانت النتيجة ان تصرفت الحكومة الصينية باعتبار ان العالم الإسلامي غائب تماما عن ملف مسلمي «الويغور»، ومن ثم اطلقت يدها في الفتك بهم، حتى صوم رمضان استكثروه عليهم.
هذه الاستهانة بعوالم المسلمين والاستهتار بمشاعرهم تجلت بصورة لا تقل فجاجة في قرار الحكومة الإسبانية منح الجنيسة المزدوجة لاحفاد اليهود الذين طردوا من البلاد قبل أكثر من ٥٠٠ عام، دون أية إشارة للمسلمين الذين طرودا في الوقت ذاته وكانت أعدادهم أكبر ومعاناتهم أشد. القانون تم إقراره في الأسبوع الماضي، ويفترض أن يدخل إلى حيز التنفيذ في الأول من أكتوبر القادم.
قرار الطرد صدر عام ١٤٩٢ ميلادية، بعد استيلاء الكاثوليك على السلطة في البلاد. وهزيمة المسلمين وإسقاط حكمهم للأندلس الذي استمر ٨٠٠ عام. حينذاك أصدر الملك فرناندو وزوجته ايزابيللا الانتقام من كل «الأغيار». فخيروا المسلمين واليهود بين اعتناق الكاثوليكية أو الرحيل. وفضلت الأغلبية الهجرة. حيث اختارت جموع المسلمين اللجوء إلى بلاد المغرب العربي واحتموا بالامبراطورية العثمانية. ولحقت بهم أعداد من اليهود الذين تمركز بعضهم في الاستانة ولجأت أعداد منهم إلى بعض الدول الأوروبية، خاصة فرنسا وإيطاليا.
تقول التقارير الصحفية إن الذين غادروا من اليهود كانوا ٢٠٠ ألف، وان سلالة هؤلاء يقدر عددهم الآن بأكثر من ثلاثة ملايين يهودي، إلا أنني لم استطع أن أتوصل إلى أعداد المسلمين النازحين الذين لا أشك في أنهم أضعاف أعداد اليهود الذين كانوا أقلية في ظل الدولة الإسلامية هناك.
في الصين وجدنا استهتارا بالمسلمين وفي إسبانيا صادفنا انكارا لوجودهم وازدراء بهم. وهو أمر ينبغى ألا نستغربه، لأن مسؤولي البلدين حين يجدون العالم الإسلامي مغيبا ومنكفئا على ذاته، ويتعامل مع تلك الملفات بخليط من التجاهل والاستهتار والإنكار، فإن مواقفهم السلبية تصبح مفهومة ومبررة. ويغدو نقد الذات المدخل الوحيد الجاد للحديث في الموضوع.