رجل يريد العصر.. والعصر يريده

كانت رمال مكة في ذلك الوقت أكثر توددا لأهلها، وقد خفت حرارتها أو تبدلت تماما، مع نسائم يوم من أيام العرب الأكثر إغراء للتنزه، وفي ذلك اليوم قال أبو هريرة ـ فيما رواه الشافعي عن الطبري ـ رأيت "هندا" بمكة وكان وجهها فلقة قمر، ومعها صبي يلعب، فمر رجل فنظر إليه فقال: إني لأرى غلاما إن عاش ليسودنّ قومه.. فقالت هند: إن لم يسد إلا قومه فأماته الله !! وربما كان طموح "هند بنت عتبة" أكبر من ذلك كثيرا، وهي تسترجع في تلك اللحظة ما قاله أحد كهان اليمن، وفيما ترويه كتب التراث عن قضية التحكيم بينها وبين زوجها الأول الفاكه بن المغيرة: إنك لتلدين ملكا يقال له معاوية !!

وقد حدث، وتحققت النبوءات، ولو كذب المنجمون..

وفيما بعد.. لم يختلف الرواة والمؤرخون وكتبة التراث، كما اختلفوا على الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان..

ورغم تأخر إسلامه، وكما تأخر أبوه، فأسلما معا في عام الفتح، وهو في نحو الثالثة والعشرين، فإن الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان، كان أثبت عقيدة، وأصدق إيمانا، وقلبه العامر بحب الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ جعله يتحين الفرص للفوز بما يربطه بمن يحب وآمن به، وحين وجد قلامة من ظفر رسول الله وشعرات من لحيته الشريفة، انطلق على سجيته للفوز بها، وظل محتفظا بالأثر الكريم حتى أوصى بأن تدفن في كفنه.. وهؤلاء الذين عاصروا الرسول وآمنوا به، قد جاءوا الحياة في أوانهم المرتقب، واقتحموا الحياة بعقيدة الإسلام، وفي أجواء أشد قسوة على المسلمين الأوائل والذين أنجزوا ما يشبه المعجزات في بضع سنين.. وعلى أيديهم انتشر الإسلام، واتسعت حدود الدولة الإسلامية إلى ما وراء البحار، وهي رؤية الرسول عليه الصلاة والسلام، عندما غفا يوما ثم استيقظ يضحك وقال: "عرض على ناس من أمتي يركبون ظهر البحر الأخضر كالملوك على الأسرة ".. وكانت البداية في سنة خمس وعشرين هجرية حين غزا " معاوية " الروم، فبلغ عمورية، فوجد الحصون التي بين أنطاكية وطرطوس خالية، فجعل عندها جماعة كثيرة من أهل الشام والجزيرة.. واستأذن الخليفة عمر بن الخطاب في فتح قبرص، وبعد أن استشهد الفاروق غدرا، كتب الخليفة عثمان بن عفان يستوثق من طلب معاوية فتح قبرص وتأمين الملاحة حولها، فأمره ـ كما جاء في البلاذري ـ بأن يركب البحر إليها، وفي السنة السابعة والعشرين من الهجرة قاد معاوية جيش الإسلام لفتح قبرص، وكان الصحابي الجليل، أول من ركب ظهر البحر من العرب غازيا في سبيل الله ناشرا لدينه، وهو العربي الذي عاش في الصحراء ، لا يرى بحرا، ولم يركب سفينة أو قاربا في حياته..

وفي التاريخ الإسلامي مراحل كثيرة اختلفت معها الأحكام على الرجال والمناقب والأعمال، وكان الاختلاف حول " معاوية بن أبي سفيان " في الصدارة، ولكن لم يختلف أحد على أن الرجل كان يتعبد، ويتصدق، ويقرأ القرآن،، ويستغفر من ذنوب وقع بها، ويقيم الصلاة، ويسرد الصيام، وهو من تلقى على يد الرسول الكريم التربية الإسلامية.. ومع حيازته لسلطات وسلطان الملك كان يقول: " إني لأستحي أن أظلم من لا يجد ناصرا علي إلا الله" .. وقد سمع غير مرة يقول ما معناه: " إنما شيّبني حذر الخطأ في الجواب" ..

والحكم على "معاوية" لم يراع الطبيعة البشرية للرجل، حتى لو كان صحابيا جليلا، فالنوازع البشرية هي الفواصل المحددة بيننا وبين الملائكة.. ومن هنا قيل الكثير عن مرحلة النزاع بين علي ومعاوية بعد مقتل عثمان ـ رضي الله عنهم جميعا ـ ولم يلتفت بعض المؤرخين والرواة لمفتاح شخصية معاوية: وهو رجل ورث السيادة من أبويه، أو كان له طموح إلى السيادة ورثه مع جاه الأسرة العريقة ــ هند بنت عتبة بن ربيعة وكانت ذات رأي وعقل وأنفة، وأبو سفيان كان على صلة بولاة الأمر من البيزنطيين، وكان يلقى هرقل وأمراء بيته في رحلاته التجارية، ويعول عليه هؤلاء فيما يعينهم من أحوال العرب وأخبارهم ــ وكان " أبو سفيان " يحب الفخر، ولعلم عمر بن الخطاب بهذا، طلب من رسول الله حين دخل مكة فاتحا أن يجعل له شيئا، فقال الرسول الكريم " من دخل بيت أبي سفيان فهو آمن " وفي هذا البيت كانت النشأة والتكوين، وهذه الظروف المحيطة بـ "معاوية" منذ مولده هي التي صاغت رؤيته وفكره وحكمته وصبره ورجاحة عقله.. وليس غريبا ـ إذن ـ أن يكون " معاوية " وهو مازال صبيا، على شغف خاص بالاستماع إلى سير الملوك، ووقائع الأمم ، وأطوار الدول الغابرة، وقد نشأ في الجاهلية نشأة ابناء الأسر وأصحاب الرئاسة الموروثة.. وحين علم أن " عبيد بن شرية الجرهمي " يعي تواريخ التبابعة والأكاسرة، أرسل يستقدمه من صنعاء، وأمره بكتابة ما وعاه من تلك التواريخ ، فألف له كتاب "الملوك وأخبار الماضين" .. ولما جاء عصر الملك، طلب الملك، والملك يطلبه.. رجل يريد العصر، والعصر يريده.. وبعد أن تهيأ له "معاوية" بطموحه ومواريثه ونياته، والدهاء والحلم معا، وهو دهاء يعتمد على قدرة عقلية فائقة تمنحه قدرة السيطرة على الناس وقيادتهم، القدرة العقلية التي تسخّر الأعوان منقادين مستسلمين..

ورغم موروث الرئاسة والطموح، فإنه حين سمع من يقول له السلام عليكم أيها الملك، كان ينكر الاسم ولا ينكر السمة .. ومع إقبال الدولة والدنيا، دخل عليه يوما،عمرو بن العاص، فرآه يراقص إحدى بناته، وكأنه لمح منه تعجبا لفعله، فنظر إليه وهو يقول: يا عمرو، هذه تفاحة القلب.. وقد تناثرت الأخبار في كتب الأدب والتاريخ عن وقائع يلتبس فيها الحلم " المفرط " ببطء الغضب وطول الروية والإناءة.. وكان يقول في مجالسه: لو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت.. وحين سأله بعضهم: كيف ذلك ؟ قال: كنت إذا شدوها أرخيتها، وإذا أرخوها شددتها.. وإذا كانت وقائع قصة النزاع على الخلافة مع علي بن أبي طالب، والاستئثار بالسلطة والملك، هي التي تدفع نفسها دفعا حين تأتي سيرة العظماء، ومن بينهم الصحابي الجليل معاوية.. فإن متغيرات العصر وأحكامه ــ من وجهة نظر المفكر الكبير عباس العقاد ــ تجعل دوام الخلافة على سنة أبي بكر وعمر أبد الآبدين من غير المستطاع، وما كان قيام الملك بعد الخلافة بالأمر الذي يؤجل إلى زمن بعيد، وأن " معاوية " كان ينازع طبعه بين الخليقة الأموية وبين آداب الدين الذي يتولى خلافته، وكان بنو أمية في الجاهلية والإسلام من أصحاب الطموح إلى الزعامة.