عندما يتحدى الصحفي الشجاع سطوة السلطة!

فيلادلفيا، الولايات المتحدة - كم نحتاج في العالم العربي إلى أشباه جيمس ريزن؛ الصحفي الأميركي الجريء غير المهادن، الذي التقيته هنا في فيلادلفيا مؤخرا! ذلك أنه لم يخش نبش الأسرار، والسعي إلى محاسبة المسؤولين، تماشيا مع دور السلطة الرابعة، المغيبة طوعا أو قسرا في عصر الردة على الحريات الإعلامية.
ريزن تحول إلى أيقونة للصحافة الحرّة في بلاده وحول العالم، بعد أن انتصر في معركة قضائية، برفضه كشف مصادر سربت له أخبارا مهمة تتعلق بالأمن القومي. وقد بدأت المحاكمة في عهد الرئيس الجمهوري السابق جورج بوش الابن، ووزير العدل والنائب العام جون آشكروفت، وانتهت في ولاية الرئيس باراك أوباما ووزير العدل والنائب العام إيريك تراغر الذي استقال قبل فترة.
هذا الصحفي الاستقصائي في يومية "نيويورك تايمز" العملاقة، والحائز على جائزة "بوليتزر" الرفيعة مرتين متتاليتين، يمشي الآن مرفوع الرأس، لأنه لم يخذل مهنته أو حق المجتمع في الاطلاع. كما نجح في حشد ما تبقّى من مكونات المجتمع الأميركي الرافضة لسياسة تكميم الأفواه، باسم الأمن القومي والحرب على الإرهاب.
ريزن هو صاحب سلسلة كتب كشفت أسرار عالم وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية "سي. آي. إيه"، وقضايا حساسة أخرى في صميم الأمن القومي والمصالح العليا لبلاده التي تقود الحرب العالمية على الإرهاب، منذ زلزلة أيلول (سبتمبر) 2001. وهكذا تحول الى أسطورة بصموده في وجه حملات منظمة لشيطنته وإسكاته.
معركته اشتعلت العام 2006، بعد أن نشر كتاب "حال من الحرب"، عن فساد في الوكالة العتيدة. حيث كشف خطة للوكالة -ألغيت لاحقا- كانت تقضي بإرسال عالم روسي سابق إلى إيران لنقل معلومات مغلوطة، بهدف تخريب البرنامج النووي الإيراني. وقد رفض ريزن الكشف عن مصادره أمام محكمة الاستئناف الفيدرالية، في إطار محاكمة مسؤول الوكالة السابق جيفري ستيرلنغ بتهمة الكشف عن معلومات سرية حول تلك العملية.
قرار الامتناع مهما كان الثمن -بما في ذلك التهديد بالحبس- جاء من باب إيمان هذا الصحفي بضرورة حماية مصادره ومسربي المعلومات الحساسة، لصون دور الصحافة والاستقصاء، خصوصا في إطار قناعته المطلقة بأن لا ديمقراطية من دون سلطة رابعة تحاسب المسؤول عن أقواله وأفعاله.
وأخيرا، كسب الرهان قبل خمسة أشهر، في قضية تحولت إلى "بيضة قبان" في اختبار حدود حرية الصحافة في أميركا التي طالما طرحت ذاتها نبراسا لقيم الديمقراطية والعدالة والمساواة، قبل أن تتخذ واشنطن من شمّاعة حماية الأمن القومي عذرا لتكميم الأفواه. ومن أعراض هذه الردّة، عمليات تنصت على الهواتف والإنترنت والبيانات الشخصية، بدعوى الحرب على التطرف الديني والإرهاب.
صبر ريزن وأخرج نفسه من إطار المساءلة القانونية. وفي المقابل، تلقى ستيرلنغ قبل شهر حكما بالحبس ثلاث سنوات ونصف السنة، بموجب قانون الجاسوسية وحماية الأسرار المتعلقة بالأمن الوطني.
الأصداء الداخلية والخارجية السلبية للقضية، أجبرت وزير العدل تراغر -قبل استقالته- على مراجعة أسس الطلب من الصحفيين تقديم شهادات أمام المحاكم. وكذلك الإجراءات المتبعة قبل مراجعة قيود هواتفهم وعناوينهم الشخصية على الإنترنت، والمعلومات في كراريسهم الخاصة.
أفلت ريزن من العقاب لأن تراغر غيّر موقفه، ووعد بعدم المساس بأي صحفي ما دام في هذا المنصب. وهكذا أسقط عن ريزن محاولة إجباره على كشف مصادره أو الحبس.
السؤال الأهم: كيف تعامل ريزن مع الضغوط التي مورست عليه لإسكاته وإرضاخه؟ وكيف تعامل معه زملاؤه الإعلاميون؟ رده الشخصي جاء بالإصرار على نشر كتاب صدر للتو بعنوان "ادفع الثمن الذي تريد: الجشع والنفوذ والحرب التي لا تنتهي".
التقيته على هامش المؤتمر السنوي لمنظمة الصحفيين والمحررين الاستقصائيين في أميركا (IRE)، والذي عقد في مدينة فيلادلفيا بولاية بنسلفانيا، في الفترة 14-17 حزيران (يونيو) الحالي، بحضور 1800 مشارك. وهنا وقّع كتابه وشنّ حملة على سجل الحريات الإعلامية المتراجع في عهد أوباما، ووصم صحفيين في البيت الأبيض بالسعي إلى التعتيم على الحقائق، والعمل كأبواق للسلطة.
كتابه الأخير مثير، يكشف فيه معلومات مهمة عن التكلفة المخفية للحرب على الإرهاب منذ اعتداءات 2001، بما فيها سرقات، وإهدار من دون جدوى، واستغلال مرعب للسلطة. وفوق ذلك الحملة على النزاهة والحقيقة، وعلى قضايا أخرى كانت تعد من المسلمات. يقول: "باسم الحرب على الإرهاب، أقدمت الحكومة الأميركية على ممارسات مشينة تحاكي في بشاعتها جرائم اقترفت في حروبها الماضية، وبذلت كل ما في وسعها لإخفائها".
من بين الأمور الصادمة التي يكشفها ريزن، إرسال 14 مليار دولار نقدا إلى العراق على متن طائرات، قبل أن تسرق غالبية هذه الأموال، بما فيها مليارا دولار شحنت سرا خارج العراق، لتشكّل إحدى أكبر عمليات السرقة في التاريخ الحديث لبلاده. وهناك أكثر من مليار دولار مخبأ في ملجأ تحت الأرض في لبنان، وفق سرده في مقدمة الكتاب.
ويتابع أن وزارة الدفاع حاولت تأسيس نسخة خاصة بها عن الـ"سي. آي. إيه"، تنشط بالاعتماد على فريق من العملاء الأجانب، يعملون في مؤسسات مموهة. والعديد من العملاء انتهوا في جيوب شخصيات شرق أوسطية موضع شك، بمن فيها شخصية يشتبه أنها حاولت استغلال عملية سرية لوزارة الدفاع لتبييض مئات الملايين من الدولارات. ومن بين العمليات المشبوهة مقترحات كادت تفضي إلى بيع طائرات من دون طيار لسورية ولبنان، ومواد كيماوية كان من الممكن أن تقع بيد زبائن آخرين. ورغم هذه الزلاّت الخطيرة التي تؤثر في الأمن القومي، فرض مسؤولون تعتيما عليها برفضهم فتح تحقيقات داخلية.
داخل أميركا، أجهزت "مثابرة الإدارة" وأذرعها على الحياة المهنية لمسربين، وقارعي الناقوس في وكالة الأمن الداخلي، حين حاولوا الاحتجاج على ممارسات عكست سوء استغلال عمليات المراقبة الوطنية، وفق نبش ريزن، ثم العميل السابق إدوارد سنودن، الذي أمعن في فضح السجلات الأمنية.
صمد ريزن في مواجهة حملات تشهير تواطأ فيها إعلاميون ومؤسسات إعلامية مقربة من السلطة، مقابل تلقيه إسنادا من آلاف الزميلات والزملاء، ومنظمات حقوقية دولية معنية بالحريات الإعلامية وحقوق الإنسان.
اتخذ قراره مبكرا بعدم السكوت، والاستمرار في كشف التعسف وسوء استخدام السلطة، رغم إدراكه بأنه يواجه خصوما أقوياء: تحالف السلطة ورأس المال، والقضاء المفترض أن يكون حامي حمى الدستور. كما يقف أمام مؤسسات إعلامية متنفذة لا تريد إغضاب مفاصل الحكم، ومحكمة العدل العليا، وإدارة أوباما التي سجنت ثمانية مسربي أخبار، مقارنة مع ثلاثة أحكام صدرت بحق قارعي الناقوس في تاريخ الإدارات السابقة المتعاقبة.
حال ريزن كحال صحفيين وازنين يتهمون إدارة أوباما بكونها من "ألد أعداء حرية الصحافة، على الأقل بالنسبة للجيل الحالي من الإعلاميين". وتستمد مواقفهم منعتها من معايير عالمية خاصة بالحريات، ومؤشرات قياس تظهر تراجع الحريات الصحفية في غالبية دول العالم، بما فيها أميركا.
هؤلاء حالهم حالنا في زمن رديء، تتسابق فيه حكومات عربية لسن قوانين للجم ما تبقّى من حريات إعلامية وسياسية، لتطويق آثار ما كان يعرف بـ"الربيع العربي"، وذلك بدعوى الحماية من الإرهاب، والحفاظ على الوضع القائم. وتسند هذه الحملة ماكينة الإعلام العام والخاص، مع انشغال غالبية الناس بتأمين لقمة العيش وضمان الأمن والأمان، بعد الويلات التي يعيشها الأشقاء في سورية وليبيا واليمن، وقبلها فصول الشتاء في مصر وتونس وغيرهما من الدول.
كان الله في عون من يصمد من الإعلاميين المستقلين في معركة الحريات الإعلامية والسياسية، وكل من يجازف بإبداء رأي خارج الأمواج الجارفة. ففي غالبية دول منطقتنا، يستطيع رجل أمن إجبار الصحفي على الكشف عن مصادره خارج إطار القانون، بالرغم من وجود قوانين واضحة تحمي الصحفي ومصادره.