أوطان في صناديق!!

هل انتهى الوطن العربي بملايين أمياله المربعة وثلث المليار من البشر الذين يعيشون فيه الى شاشات وشريط أخبار يحتاج المسنون الى ان يلصقوا أهدابهم به كي يقرأوه؟

 

ما حدث ويحدث الآن، وما قد يحدث أيضا ليس مسلسلا دراميا يبث في غير الليالي الرمضانية، فالشاشات أصبحت مبقعة بالدم والأغنية الوطنية القومية يستخدمها الخصوم بالحماس ذاته، وثمة حواسيب مشكوك في ذكائها لعد القتلى والجرحى والعالقين بالحدود!

 

ان شيئا من الذهول لا يزال يغيم في فضاءات العرب ويحجب آفاقهم الأبعد، ومن هؤلاء العرب من لا يعنيهم ما يحدث كما لو أنه في بلاد واق الواق أو كوكب الزهرة مقابل آخرين يكتفون بالجلوس أمام الصندوق الذي تحول بالفعل الى صندوق عجب للكبار يزعمون بأنهم يرون ما وراء الأكمات كبيرا، فثمة اسئلة وهواجس بدت تطفو على السطح بعد ان دخل المسلسل طوراً بالغ الجدية والخطورة.

 

المشهد أمام العالم هو باختصار عرب يأكلون لحم بعضهم أحياء وموتى، والخاسر في النهاية هو من يظن بأن الزمن توقف عند باب بيته وكما في كل حراك يأتي اثر مديونيات تراكمت عقودا، لا بد ان تكون هناك أعراض جانبية، لكن ليس من المعقول ان تصبح هذه الاعراض مساوية للداء ذاته.

 

لقد قتل تونسيون وهم يهتفون للحرية ويطالبون برحيل الرئيس.. وها هم يقتلون الآن وهم يهتفون بشعارات اخرى، أعادت ثلاثة شهور فقط انتاجها، وميدان التحرير الذي شهد ملايين المصريين وهم يهتفون للثورة تتردد فيه الآن أصداء هتافات تحذر من اختطاف الثورة، ومن عواصف الثورة المضادة.. وقد يأخذ هذا السجال الساخن زمنا قبل ان يبدأ كل شيء بالتبلور، فرحيل رئيس أو تنحيته قد يكون مطلبا جذريا للحراك الوطني، لكنه ليس خاتمة المطاف، وربما كان ما يليه هو الاشدر خطورة لأن غروب شمسه يختبر البدائل.

 

لقد حدث هذا مراراً في العالم الثالث، وثمة ثورات أكلت أبناءها ومنها ما استطالت أنيابها فقضمت الاحفاد ايضاً، لهذا فاللحظة الآن حرجة في النطاق القومي كله.. ولا يصح أن نبقى أسرى القراءات السطحية للمشهد كما تتولاه الفضائيات في موسم دموي غزير المحصول.

 

وحين يكون هناك تفاوت بين ما يجري وبين أدوات رصده واللحاق به فان ما سوف يضيع ليس قليلاً أو يمكن الاستخفاف به، ففي كل تصريح سياسي أو تعليق أو حتى متابعة حدثية ميدانية ثمة روايات تتصارع، وأحياناً تلتبس القرائن التي يمكن الاحتكام اليها بهدف الترجيح ان هناك فارقاً هائلاً بين ما نرى وما نحب ان نرى، فالتغيير بمجمل دينامياته مطلب لا يعترض عليه الا من تحجروا وتخثرت دماؤهم في عروقهم.. لكن التغيير ليس حركة بلا بوصلة، أو مجرد تفكيك لا يقترن به أو يعقبه تركيب يعيد للحياة عافيتها..

 

لقد لدغنا مرارا من جحر التفكير ذي البعد الواحد، أو ما يسمى التفكير الرغائبي، فالاوطان اكثر تعقيدا واتساعاً وقيمة من ان تسجن في صندوق. وما يحدث بالحروف الكبيرة يتحول أحياناً الى شريط من الحروف الصغيرة التي تحول الحبة الى قبة أو العكس تبعاً للنوايا..

 

ان الدم أغلى من الحبر والأوطان ليست معلبات تلفزيونية!!