النحَّات الصغير
اخبار البلد
كان في ساحة الـ«شانزلزيه» يراقص فتاة شقراء التانغو الأرجنتيني، لا يعرف أين تعلّم تلك الرقصة، لكن الفتاة والموسيقى معًا كانتا تُحكِمان قبضتهما على حركته، تعبثان بكيانه.
«الكنبة المخلّعة» وأزيز الرصاص لم يمنعاه من أن يعيش حلمه هذا فيما يغطّ بثبات عميق وهانئ، فأمام عاصفة البارود ودخانه، اعتاد أن يتنفّس أحلامه فقط.
«منذ 4 سنوات كان الأمر مختلفًا، يومها تمخَّضت (شآم)، كما يحلو له أن يسميها، الأمل، ولكن رويدًا رويدًا راح الخوف يتفشّى كوباء في أنحاء البلاد وأرجاء كل منّا، بتنا نعيش هاجس التقسيم، وانشطرت ذواتنا نصفين: نصف خائف على مستقبله، ونصف يائس من أن يتفتت الوطن إلى مقاطعات»، يقول.
هو الذي ينحت في الصخر، تنحت الشام ذاتها في قلبه، فحتى حين يهرب لاجئًا إلى الحلم الباريسي يبقى الواقع الشامي حاضرًا بقوة، ليشكلا مزيجًا هجينًا من الحيوات يجعلك تسأل نفسك مرات عدة: أين يعيش النحات والفنان التشكيلي سامي؟
في الحلم الباريسي يراقص الفتاة الشقراء ويهمس في أذنها كلمات الشاعر الفرنسي «أراغون»، هكذا يتلو صلاته اليومية: «هي وحدها إن تكلمت، حديثها رحلة - هي وحدها صمتها، على جمال الظلال - هي وحدها وكل الحب، عندي أنا وجه واحد - هي وحدها والعجائب، تندهش إذا مرَّت - هي وحدها والشمس، ما تكاد ترى فيها صورتها (..)».
قاطعته وهمساته تدغدغ أذنها، سائلةً «C’est qui?» (من هي؟). كانت كبرياؤها الأنثوية تتوقع أن تقول لها جازمة: «أنت». فاجأها إذ أكد: «هي شآم».. في تلك اللحظة، أفاق من نومه هادئًا، لم يتبعثر مزاجه، رغم الانقلاب الجذري في السيناريو، وكأنّه كان في حلم يقظة، يعلم في قرارة نفسه أنه نائم، وأنه يحلم، ربما لأنه لم يراقص زوجته منذ زمن، منذ الطلقة الأولى. يعود بحلمه الفرنسي لمقولة «أراغون»: «لماذا نبدع لأنفسنا بلادًا خرافية ما دامت تغدو منفًى لأرواحنا؟».
إلا أن ذلك لن يبدِّل في قراره تبديلا، فعقب السنوات الأربع تلك من عمر الشام، كان قد اتخذ قراره بالرحيل إلى فرنسا، وسيبقى في قرارة نفسه يفكر ويحلم إلى أن يمخر اليم مع عائلته على متن المخاطرة.
جلّ ما يعتريه الآن هو الشعور بالذنب، فقد راقص في الحلم امرأة أخرى غير زوجته، لا ينفكّ يهدئ من روعه، عازيًا ذلك إلى مخيّلة تقدّم صورا متراكمة عن نساء مررن في حياة المرء.
منذ زمن يعجز عن فهم ما يريد، عن قراءة ما في داخله، بات فعلاً خاويًا من الداخل..
هي الشقراء الفرنسية، التي تراقصه وسط كل هذا الدمار، توحي له بإخلاص وصدق افتقدهما. يعرف أن التانغو السعيدة تلك لن تبصر النور، فما يعيشه الآن شيء آخر من زمن آخر، حتى يتخيّل نفسه أحيانا لا ينحت في الحجر بل يداعبه..
بعد نحو النصف ساعة، انتبه إلى ابنه متسمّرًا أمامه، يراقب التغيّرات في معالم وجهه، على الأرجح، غير آبهٍ بصوت الرصاص، كأنه بات ذاك المؤثر الصوتي في شريط حياته. فجأة، يصرخ الصبي بفرح: «اجت الكهربا» ويركض باتجاه شاشة التلفزيون الذي يدور تلقائيًا، كونه انطفأ أصلاً مع انقطاع التيار، ينغمس الصبي في عالم أفلام الكارتون، إلى أن تعود الظلمة لتخيم على المكان.
تدخل الأم وفي يدها الحاجات لتعدّ العشاء، الأب الفنان يبحث عن فكرة جديدة، وفي الأثناء تختصر مائدة عائلته الكثير من مكوّناتها، إلى أن يتمّ التسويق للمنحوتة ثم بيعها.
كبر ابنه وكبرت معه المسؤولية، بات الفنان الملتزم يمزج الألوان ليبيع أعماله للطبقات البرجوازية في بيروت، فيما ينحت ليفرّغ ما في داخله من مكامن وأفكار فنية.
تلك الفكرة التي تحتاج ساعتين أو أكثر لتبصر النور قد تشهد وفاة صديقين أو أكثر برصاص طائش لا طائل لهم به، راح يقول في نفسه وهو يفكر أن ينحت في الغد أسدًا عاريًا منهكًا وهزيلاً، وفي جسده بصمات الهزيمة التي مررت راحتيها الصلبتين على جلده.
في صباح اليوم التالي، كان ابنه في الخارج، يلعب مع أترابه لعبة الحرب، للمرة الأولى يرى في عينيه نشوة الانتصار، لطالما اعتاد ذاك الصبي الهادئ أن يخسر. اليوم، حين بدأ الحلم الفرنسي يقترب شيئًا فشيئًا، انتصر الولد.
يقول الأب في نفسه: «ما بدي ابني يربح الحرب ضد رفقاته، بدي ياه يربح حربه مع الحياة»، إلا أنه يأبى أن يصارح الفتى فيفسد عليه فرحته.
يفكِّر: «ابني سيخسر كل شيء في باريس، سينحت في الصخر، ويراقص الحياة لتتأرجح به ذهابًا وإيابًا.. ابني لن يرث عني متعة فن النحت، بل سيرث عقابًا. سينحت بيديه الصغيرتين في الصخر».
ولكنّه ما يلبث أن يعزي نفسه معتبرًا أن المغادرة بداية جديدة لولده، وأن النحت (وإن في الصخر) أمل.
«منذ 4 سنوات كان الأمر مختلفًا، يومها تمخَّضت (شآم)، كما يحلو له أن يسميها، الأمل، ولكن رويدًا رويدًا راح الخوف يتفشّى كوباء في أنحاء البلاد وأرجاء كل منّا، بتنا نعيش هاجس التقسيم، وانشطرت ذواتنا نصفين: نصف خائف على مستقبله، ونصف يائس من أن يتفتت الوطن إلى مقاطعات»، يقول.
هو الذي ينحت في الصخر، تنحت الشام ذاتها في قلبه، فحتى حين يهرب لاجئًا إلى الحلم الباريسي يبقى الواقع الشامي حاضرًا بقوة، ليشكلا مزيجًا هجينًا من الحيوات يجعلك تسأل نفسك مرات عدة: أين يعيش النحات والفنان التشكيلي سامي؟
في الحلم الباريسي يراقص الفتاة الشقراء ويهمس في أذنها كلمات الشاعر الفرنسي «أراغون»، هكذا يتلو صلاته اليومية: «هي وحدها إن تكلمت، حديثها رحلة - هي وحدها صمتها، على جمال الظلال - هي وحدها وكل الحب، عندي أنا وجه واحد - هي وحدها والعجائب، تندهش إذا مرَّت - هي وحدها والشمس، ما تكاد ترى فيها صورتها (..)».
قاطعته وهمساته تدغدغ أذنها، سائلةً «C’est qui?» (من هي؟). كانت كبرياؤها الأنثوية تتوقع أن تقول لها جازمة: «أنت». فاجأها إذ أكد: «هي شآم».. في تلك اللحظة، أفاق من نومه هادئًا، لم يتبعثر مزاجه، رغم الانقلاب الجذري في السيناريو، وكأنّه كان في حلم يقظة، يعلم في قرارة نفسه أنه نائم، وأنه يحلم، ربما لأنه لم يراقص زوجته منذ زمن، منذ الطلقة الأولى. يعود بحلمه الفرنسي لمقولة «أراغون»: «لماذا نبدع لأنفسنا بلادًا خرافية ما دامت تغدو منفًى لأرواحنا؟».
إلا أن ذلك لن يبدِّل في قراره تبديلا، فعقب السنوات الأربع تلك من عمر الشام، كان قد اتخذ قراره بالرحيل إلى فرنسا، وسيبقى في قرارة نفسه يفكر ويحلم إلى أن يمخر اليم مع عائلته على متن المخاطرة.
جلّ ما يعتريه الآن هو الشعور بالذنب، فقد راقص في الحلم امرأة أخرى غير زوجته، لا ينفكّ يهدئ من روعه، عازيًا ذلك إلى مخيّلة تقدّم صورا متراكمة عن نساء مررن في حياة المرء.
منذ زمن يعجز عن فهم ما يريد، عن قراءة ما في داخله، بات فعلاً خاويًا من الداخل..
هي الشقراء الفرنسية، التي تراقصه وسط كل هذا الدمار، توحي له بإخلاص وصدق افتقدهما. يعرف أن التانغو السعيدة تلك لن تبصر النور، فما يعيشه الآن شيء آخر من زمن آخر، حتى يتخيّل نفسه أحيانا لا ينحت في الحجر بل يداعبه..
بعد نحو النصف ساعة، انتبه إلى ابنه متسمّرًا أمامه، يراقب التغيّرات في معالم وجهه، على الأرجح، غير آبهٍ بصوت الرصاص، كأنه بات ذاك المؤثر الصوتي في شريط حياته. فجأة، يصرخ الصبي بفرح: «اجت الكهربا» ويركض باتجاه شاشة التلفزيون الذي يدور تلقائيًا، كونه انطفأ أصلاً مع انقطاع التيار، ينغمس الصبي في عالم أفلام الكارتون، إلى أن تعود الظلمة لتخيم على المكان.
تدخل الأم وفي يدها الحاجات لتعدّ العشاء، الأب الفنان يبحث عن فكرة جديدة، وفي الأثناء تختصر مائدة عائلته الكثير من مكوّناتها، إلى أن يتمّ التسويق للمنحوتة ثم بيعها.
كبر ابنه وكبرت معه المسؤولية، بات الفنان الملتزم يمزج الألوان ليبيع أعماله للطبقات البرجوازية في بيروت، فيما ينحت ليفرّغ ما في داخله من مكامن وأفكار فنية.
تلك الفكرة التي تحتاج ساعتين أو أكثر لتبصر النور قد تشهد وفاة صديقين أو أكثر برصاص طائش لا طائل لهم به، راح يقول في نفسه وهو يفكر أن ينحت في الغد أسدًا عاريًا منهكًا وهزيلاً، وفي جسده بصمات الهزيمة التي مررت راحتيها الصلبتين على جلده.
في صباح اليوم التالي، كان ابنه في الخارج، يلعب مع أترابه لعبة الحرب، للمرة الأولى يرى في عينيه نشوة الانتصار، لطالما اعتاد ذاك الصبي الهادئ أن يخسر. اليوم، حين بدأ الحلم الفرنسي يقترب شيئًا فشيئًا، انتصر الولد.
يقول الأب في نفسه: «ما بدي ابني يربح الحرب ضد رفقاته، بدي ياه يربح حربه مع الحياة»، إلا أنه يأبى أن يصارح الفتى فيفسد عليه فرحته.
يفكِّر: «ابني سيخسر كل شيء في باريس، سينحت في الصخر، ويراقص الحياة لتتأرجح به ذهابًا وإيابًا.. ابني لن يرث عني متعة فن النحت، بل سيرث عقابًا. سينحت بيديه الصغيرتين في الصخر».
ولكنّه ما يلبث أن يعزي نفسه معتبرًا أن المغادرة بداية جديدة لولده، وأن النحت (وإن في الصخر) أمل.