أدب البؤساء


للشقاء كما للغناء ، لغة كونية وصدى غائر في القلب، وما مِن مُبدع إلا وتوضأ بدماء الوجع والحرمان، وكما قال الشاعر العربي العتيق:

إني أمرؤٌ لعبَ الزمانُ بِهمتي وسُقيتُ من كأس الخطوب دِهاقها

والألفاظ التي تسبق معانيها إلى العقل قبل أن يصل المعنى إلى القلب، هي مِن تمخض هذا الوجع المُزمن، فالحرمان شرط إنساني مُستديم، منذ أن لثغ الانسان أول حرف في هذا الوجود، وتهجى أبجدية الكون الخالدة، ليرسُم تضاريس المُعاناة والفقدان والمرارة.

وإذا كان الأديبُ يكتبُ للناس ومن أجل الناس وليس لنفسه، كما كان يحلو لعميد الأدب طه حسين أن يقول، فإن الفيلسوف والمفكر والعالم ، كلٌ له مملكته الخاصة وملكوته في سماء هذا الناموس التاريخي، فشوبنهاور ، الفيلسوف الألماني الشهير، تجرع من الألم حتى بات يهذي في أخر حياته قائلاً:
"يحدثُ لي ما حدث للمسيح من قبلُ" ، قالها بعد صراعٍ مرير ومديد مع والدته الأديبة صاحبة الصالون الشهير الذي يؤمهُ الأدباء والشعراء من ذوات الطبقة المخملية، وكان الناسُ عصرئذٍ يُحدثونها عن إبنها الشهير، فتغتاض من ذلك ، حتى جاء يومٌ موعود ، دخل فيه شوبنهاور الصالون، فنهرته أمه على مسمع من الجالسين، وبعد ملاسنة مالحة كطعم العلقم ، رمته أمه من السلم حتى تكسرت أضلعهُ وهو يصيح : ستعيشين وتموتين على أنك أمُ الفيلسوف شوبنهاور.

وحصل مع الشاعر العظيم هولدرلين ما حصل لنيتشه بعده ايضاً، ففيلسوف المعاناة والتدمير الذي كانه فريدرش نيتشه، بقي في حالة جنون رسمي ما يزيد عن إحدى عشرَ سنة، وقبل أن يُجن وهو في مدينة تورينو الخالدة، قال لأخته إليزابيث :
" لأ أريد لأي قديس أو خوري أن يأتي ويتلو الأباطيل على قبري، أريدُ ان أموت وثنياً شريفاً".

وعندما أتت لحظة الجنون وهو في لوبي إحدى الفنادق الريفية الفارهة، أخذ يصيح من اعماقه " أنا المسيح أنا دونيسيوس ، إله الخمر والعربدة والجنون أنا" .

أليس هو من قال في إحدى كتبه " من يعرف كيف يتنفس من الهواء الذي يملىء كتاباتي ، يُدرك أنه رياح أعالي ، جبال، وأن الخطر ليس بيسير ، خطرُ الإصابة ببرد!".

ودفعه جموحه الزائد كالنار ذات يوم لأن يقول عن والدته وأخته:
"إن مجرد التفكير أن لي قرابة مع هكذا رهط من الوضيعين، لهو تجذيف بحق منزلتي المقدسة".

لقدى عانى هذا الفيسلوف وأصيب بمرض السفلكس قبل أن يُجن، ولم يتزوج على غرار سارتر الذي بقي يقيم مع الفيسلوفة سيمون دو بفوار، في نفس الشقة، وكان حب نيتشه الوحيد في حياته فاشلاً بكل المقاييس، فقد أحب يافعة يهودية أديبة رمتهُ بسهمها، هي لو شالومي، التي ملأت الدنيا وشغلت الناس، هذه الفتاة أحبها وعشقها حتى الفناء، ثلاثة من أكبر من غيروا وجه التاريخ في أوروبا، فقد أحبها نيتشه الفيلسوف، وريلكه الشاعر الالماني الموهوب، وعالم النفس فرويد، ورفضت الإرتباط بهم، وأصيب الثلاثة بعقد الحرمان والكبت والجوع العاطفي!

والمُفارقة هنا ، أن فرويد وبعد الفضيحة التي تعرض لها مع تلميذاته ، الذي أجبرهن على تطبيق تعاليمه الجنسانية عملياً، وبعد أن جعل خطيبته تتناول الكوكايين فيما يعرف بفضيحة فيينا، أصيب في سرطان في شفتيه، وهذا ما جعل النسوة والفتيات يشمئزن وينفرن منه، ويكرهن الدنو أو الإقتراب منه، وهذه الفترة التي عاشها في ظل السرطان والحرمان من النساء ، هي التي أنتج فيها فرويد معظم أطروحاته عن المرأة والرجال والعلاقات بينهما، فهل كانت الشفتين التين أدميتا بداء السرطان هو سبب ذلك؟

ومثل ما حصل للأديبة لو شالومي ، حصل تقريباً للأديبة اللبنانية الفلسطينية مي زيادة، التي أحبها مثقفو عصرها، بدءً بالأستاذ العقاد، ومروراً بجبران خليل جبران ومصطفى صادق الرافعي ، الذي كتب بقلبه رسائل الأحزاء والسحاب الأحمر وأوراق الورد، وعندما نقرأ هذه الصفحات التي بيضها الأديب الكبير الرافعي، نُحس أن القلب يجري بين سطورها، فهي تكاد تمسح بالأردان مجرى المدامعِ ، كما يقول الجواهري في قصيدته، وقد روى الأديب الراحل الباقي أنيس منصور – رحمه الله- في كتابه " في صالون العقاد كانت لنا أيام" تفاصيل حب الأستاذ العقاد لهذه الأنسة التي أصبحت تجوب شوارع القاهرة وهي تصرخ بعد أن أحرقت كتبها، كما يقول الأستاذ أنيس منصور!