هل يفيق أردوغان من الشيزوفرينيا؟

يمكن أن تعتبر نتائج الانتخابات التركية مخيبة لآمال مناصري أردوغان وحزب العدالة والتنمية، ولكنها ليست النهاية كما يتوقع كثير من خصومه، وعلى الرغم من أن النتائج من شأنها عرقلة مشروع أردوغان للتفرد بالحكم في تركيا وتحويلها من النظام البرلماني إلى الرئاسي، إلا أن ذلك يحمل أيضا فرصا لحزبه، فالأوضاع الاقتصادية في تركيا تتجه إلى التعقيد وإلى بعض الأزمات غير الممكن التنبؤ بمسارها، وبالتالي، سيكون الحزب وجد فرصة للتملص من أي مسؤوليات لإنه عمليا لم يعد يستحوذ على السلطة الكاملة.
لماذا لا يعتبر الحزب مهزوما، ببساطة ما زال اللاعب الرئيسي في السياسة التركية، وبقية المنافسين لا يمكنهم أن يشكلوا تأثيرا مهما على تسيير دفة الأمور في تركيا، وواقع الأمر أن تراجع العدالة والتنمية لم يترافق مع صعود قوة منافسة يمكنها أن تفرض توجهاتها عدا عن أن تطرح مشروعا بديلا.
الاحتمالات مفتوحة خلال الأشهر القادمة، اسطنبول ليست المدينة التي يمكن لأردوغان أن يخدعها بمناورته السياسية في المستقبل، فهو استنفد الكثير من رصيده هناك، وبالإضافة إلى ذلك فإن كتلا انتخابية مهمة في الأناضول لم تعد تسانده، وتحديدا الأكراد والعلويين، وذلك مرتبط بمواقف أردوغان في الصراع الدائر في سوريا.
نتائج الانتخابات ستعيد تأهيل مواجهات بدت محسومة لأردوغان في السنوات الأخيرة، وأهمها بالتأكيد علاقته مع مؤسسة الجيش التي كان تحييدها من السياسة التركية على رأس أولوياته، وكذلك فالقوى اليمينية التقليدية ستجد فرصة لإعادة إنتاج نفسها، بجانب اليسار الذي يختلف مع أردوغان على أرضية برامجية وأيديولوجية واضحة، فهل يستطيع أن يواجه أردوغان صراعا على هذه الجبهات ضمن الشروط الجديدة التي أفرزتها الانتخابات الأخيرة.
يضاف بالطبع إلى واقع السياسة التركية وطبيعة التوازنات القائمة، الدور الإقليمي الذي سعى له أردوغان في خروج واضح على مبادئ الأتاتوركية المتحفظة والمصابة بالحساسية من خوض الصراعات في نطاق الأراضي السابقة للإمبراطورية العثمانية، ويبدو أن نتائج الانتخابات ستنعكس على الساحة العربية بسرعة أكبر مما هو متوقع، وذلك يفسر حالة الصدمة التي اعترت أنصار أردوغان على الساحة العربية، والارتياح الذي بدى واضحا في الجهة الأخرى.
إذا كانت مسألة أردوغان التركي ستبقى دائما طاغية في السياسة التركية على الرغم من الكبوة الأخيرة، فإن صورة أردوغان العثماني تضررت بصورة لا يمكن أن تسترجع لاحقا، وعليه أن ينهي حالة الشيزوفرينيا التركية العثمانية التي عايشها في السنين الأخيرة، وعلى حزب التنمية والعدالة أن يعيد قراءة الأوضاع بصورة متأنية يمكن أن تدفع خلال فترة قريبة لإعادة تعريف دور أردوغان وتحديده من جديد، فأردوغان الرئيس (الاستراتيجي) مختلف عن أردوغان رئيس الوزراء (التنفيذي)، والفرق للحزب كبير.
مستقبل تركيا كما يراه أردوغان اليوم يختلف عن المستقبل الذي رآه الكماليون قبل نحو قرن من الزمان، فتركيا الكمالية تعتمد في تماسكها على أساس الكتلة الصلبة لأهالي الأناضول والساحل المتوسطي، وأي تمدد إقليمي من شأنه أن يؤثر على الهوية التركية والقناعات التي قامت على أساسها تركيا الحديثة، وهذه مخاطرة تفوق بالتأكيد أي منجزات اقتصادية أو تنظيمية حققها أردوغان سابقا، وربما ليست المسألة بالسهولة التي تصورها أردوغان الذي بهرته ألقاب مثل فاتح أو غازي بعد عودته من أحد جولات التفاوض حول الانضمام للاتحاد الأوروبي، والواقع أن الهوية التركية ومفردات الحياة السياسية في أنقرة ليست بأكثر تماسكا أو تجانسا من الواقع القائم في سوريا أو العراق.