الحياة في مكان آخر..
عنّ لي أن أدير ظهري لكل الهراء الذي وصل إلى الركب وأحيانا تجاوزها إلى الأعناق، اجلس لساعة أو أكثر على قارعة اللامبالاة، وأحدد موقفي كالتالي: ليس ضروريا، ولا رغبة لدي، لأن اتخذ موقفاً من أي شيء.
ولكن حقاً.. أين هي الحياة التي من المفترض أن نعيشها؟ أين ضللنا الطريق إليها؟ ولماذا نملأ أفواهنا وأفئدتنا وأرواحنا بالركام، ثم نزعم أننا إنما نحياً أو نحاول إلى الحياة سبيلاً؟
نبدأ صباحاتنا باللهاث وراء المال والمناصب والمكاسب وزخارف التكنولوجيا الحديثة، وننهي نهاراتنا بلهاث يتخلله شخير المتعبين، وفي قيامنا وقعودنا، سيرنا وعدونا، نراوح بين جدران رخامية، بين حقول ألغام، فتلك شارة حمراء وذلك خط أحمر وذاك.. موت أحمر.
من منكم شم ضوع زهرة منذ دهر؟ من منكم رفع رأسه إلى سماء فسيحة، لا تخنقها العمارات والسماسرة من كل نوع؟ من منكم أراح كهولته على خاصرة جدول أو صلى.. مع الريح أنى هبت وابتهل.
هل كثير أن أريح رأسي من وسائل إعلام تقولب وتعلب وتكذب وتصنع الأخبار بمقاييسها، لدرجة أنها لا تسبب الصداع فقط، بل خراب العقول؟
هل كثير أن أرمي النير غير المرئي الذي وضعته حول اعناقنا حكومات واقتصاديات وسياسات، فصرنا أسرى تقلبات السوق وتوجهات الساسة والبورصات والاحلام الغامضة لرأسمالية متوحشة تنهش أكبادنا.
منذ سنوات ونحن نحسب ونقتر، ونحسب ونقتر، ونبحث عن وظائف تضاف الى وظائفنا، وأعيننا لا تبارح لوحة اسعار تعلو.. ولا تنزل ابداً، حتى استنفذنا قدرتنا على العمل الاضافي وتآكلت مرتباتنا مرات ومرات واعتلت قدرتنا على الحلم والخير والخيال، ولو نظر أحدنا إلى صورته في مرآة لشاهد رقماً! تخلو ملامحه من الانسان الذي كان.
نعم.. الحياة في مكان آخر، وفق رواية «ميلان كونديرا» الشهيرة، وذهب فيها الى أن الحياة التي نسعى إليها لن تكون هي نفسها التي نحياها، وفي معرض سرده لقصة بطل روايته «جاروميل» يتساءل كونديرا «كيف يمكن للمرء أن يكون شاعرا في ظلل نظام ديكتاتوري».. وأتساءل: كيف للمرء أن يكون انساناً في ظل حياة تشبه العيش في علبة سردين؟