عبقرية الديمقراطية وحلم السلطان

نتائج الانتخابات البرلمانية التركية، أنهت هيمنة حزب العدالة والتنمية على الحياة السياسية لأكثر من عقد، رغم أن الحزب ما يزال الأقوى، لكنه لن يكون قادراً على أن ينفذ برنامجه وطموحاته السياسية والاقتصادية. والأهم من ذلك أن الانتخابات وضعت حداً لطموحات الرئيس رجب طيب أردوغان في إحداث تغييرات جوهرية على النظام السياسي، من خلال التعديلات الدستورية التي كان يطمح إليها.
لن يكون "العدالة والتنمية" قادراً على الحكم بمفرده، وسوف يضطر للتحالف مع أحزاب أخرى لتشكيل الحكومة. وقد يستطيع التحالف مع أحد الأحزاب المعارضة، لكنه سيضطر لقبول تنازلات، ولن يستطيع أن يفعل ما يشاء في تركيا بعد اليوم.
بقدر ما كانت الانتخابات البرلمانية حول "العدالة والتنمية"، فقد كانت أيضاً استفتاء على شعبية أردوغان الذي لم يحصل على تفويض بالحكم كما كان يأمل. إنها عبقرية الديمقراطية التي تكاد تكون النظام الوحيد الذي يستطيع إعادة تصويب نفسه، وإعادة المسار السياسي الى الواقع والاعتدال، فلا يسمح لأي حزب أو رئيس أن يمضي في تطبيق برنامج حزبي أو طموح شخصي ينزع للتسلط والدكتاتورية، ليحكم فترة طويلة، مهما كانت النجاحات التي حققها لبلاده.
لقد حقق "العدالة والتنمية" وأردوغان الكثير لتركيا، لكن أهم الإنجازات كانت اقتصادية، وارتفع معدل دخل الفرد خلال حكمهما ثلاثة أضعاف تقريباً، وشعر الجميع بفوائد هذا النمو. والأمر الذي لا يقل أهمية عن النجاج الاقتصادي هو التركيز على الهوية الإسلامية للشعب التركي وإبرازها على المستوى السياسي. فقد أصبح الحزب وتركيا في نظر العديد من المراقبين نموذجاً إسلامياً ديمقراطياً، يجمع بين القيم والإرث والهوية الدينية وبين الديمقراطية.
في النظام الديمقراطي، الشعب يصوت على أساس سياسي أو فكري، لكن في التحليل النهائي يصوت الناس على السياسات والبرامج لا على الأفكار والأشخاص فقط. هذه هي قوة الديمقراطية. وقد أثبت الشعب التركي أن الديمقراطية راسخة لديه.
بالرغم من أن أردوغان كان الزعيم والرجل الأقوى في تركيا، وبالرغم من الإنجازات التي حققها لتركيا، إلا أن سياسته بدأت في السنوات الماضية تثير حفيظة العديد من القوى الشعبية، وحتى تلك التي دعمته خلال السنوات الماضية. قد يكون من أهم المآخذ على أردوغان تنامي النزعة السلطوية أو الدكتاتورية لديه، والتي بدأت تظهر ملامحها من خلال نواياه تحويل النظام التركي إلى نظام رئاسي. وقد أحدث تغيرات تمكنه من الاستمرار بالحكم لفترة طويلة جداً، ولم يبد أي رغبة في مغادرة الحكم، مرة بوصفه رئيساً للوزراء وأخرى باعتباره رئيساً للجمهورية، فكان بذلك يقلد نموذج بوتين الروسي. ومن أجل ذلك فقد استبعد كل منافسيه من الحزب نفسه.
كذلك، أيد أردوغان نزعات تسلطية من خلال الطريقة التي تعامل بها مع معارضيه، فلم يتورع عن أن يتهم معارضيه من الأحزاب والقوى الأخرى بالخونة والإرهاب والمثلية، ولم تسلم المرأة من ملاحظاته عندما قال إن موقعها الأفضل هو في البيت للإنجاب وتربية الأطفال.
كل هذه السلوكيات والانتقادات كان لها أثر كبير في مواقف الكثيرين. لكن موقفه من "الربيع العربي"، وتحالفه مع الإخوان المسلمين في الدول التي شهدت انتفاضات، وبخاصة في مصر وسورية، كان لهما أثر كبير في إبراز طموحاته الإقليمية بزعامة العالم الإسلامي، من خلال إحياء الروح العثمانية. وبدأ أردوغان يتصرف كسلطان القرن الواحد والعشرين. لكن مشروعه وسياساته حيال "الربيع العربي" تلقت صفعة كبيرة بعد إطاحة محمد مرسي في مصر، وتعثر سياساته في سورية.
كان ظهور "العدالة والتنمية"، وحكمه بزعامة أردوغان، قصة نجاح شكلت نموذجاً للعديد من الأطراف، لأنها جمعت بين الديمقراطية والهوية الإسلامية. لكن مع مرور الوقت، وبالرغم من النجاحات الاقتصادية، أصبحت هذه التجربة تعاني من ضغوطات كبيرة. وهذه ليست المرة الأولى التي يعاقب بها الشعب التركي النزعة لاختطاف الديمقراطية، فقد فعلها في الخمسينيات مع حزب مؤسس الدولة كمال أتاتورك، ومع الحزب الذي جاء بانقلاب العسكر في الثمانينيات.
لقد جاءت نتائج الانتخابات البرلمانية التركية لتضع حداً لحكم السلطان، ففي الديمقراطية هناك فرصة لظهور زعماء كبار، لكن لا مجال لبروز "سلاطين"؛ إنها عبقرية الديمقراطية.