العبث وإنقاذ التعليم في الأردن

اعترفت وزارة التربية والتعليم بأن الامتحانات التحصيلية للصفين السادس والتاسع سربت. ولم نعرف إن كانت الوزارة قد شكلت لجنة تحقيق لمعرفة ما حدث، خاصة في ظل تقاذف الاتهامات بين نقابة المعلمين والوزارة.
قبل كل شيء، أنا شخصياً لا أؤيد إجراءات الرعب التي تثيرها امتحانات "التوجيهي" مثلاً، ولست مقتنعاً أن يتحدد مستقبل الطلبة في عامهم الأخير بالمدرسة، ويعتمد على قدرتهم الكبيرة على الحفظ، وأقل من ذلك الإدراك والفهم. وأعتقد أنه آن الأوان لعمل استدارة كبيرة نحو استكشاف مهارات وميول الطالب من سن مبكرة في التعليم، والعمل على دفعه لتنمية اهتماماته وقدراته ليصبح قادراً على اختيار مهنته مبكراً، وهو ما تفعله دول العالم.
ورغم قناعتي هذه، فإنني في المقابل كنت مؤيداً لإجراءات وزير التربية د. محمد الذنيبات بإعادة الهيبة إلى "التوجيهي"، ووقف الانهيار في منظومة التعليم، واجتثاث الغش، حتى لو تطلب ذلك تدابير وإجراءات حازمة جداً؛ فمن غير المقبول أن نسكت على قيم تنهار، ومجتمعات تحتضن وتدعم ظاهرة الغش وتكاسر الدولة حين تتصدى لها، وأساتذة وإدارات ومدارس بعضهم شركاء في تعزيز هذه الظاهرة ويغذيها.
صمد وزير التربية والتعليم في مواجهة الضغوط، ونجح الى حد كبير في إعادة العملية التربوية الى مسارها الصحيح، ولو بشكل جزئي. وتراجعت حالات التنمر السافرة على القواعد والضوابط. لكن "الخراب" الذي لحق بالتعليم طوال العقود الماضية، أبعد وأعمق من عمليات الغش الممنهج. فالمشكلة في تفشي الأمية بين الطلبة. إذ ثمة طلبة يمضون سنواتهم الأولى ولا يعرفون كتابة اللغة العربية أو عمليات جمع بسيطة، أو كلمات إنجليزية قليلة. وهذا الاكتشاف المتأخر يتحمل مسؤوليته الجميع؛ بدءاً من العائلة، مروراً بالحكومة وتحديداً وزارة التربية، والمعلمون الذين أصبح بعضهم لامبالياً بأهمية دوره ورسالته، والمدارس التي لا تمارس إداراتها دورها الريادي في صناعة الأجيال.
المهم، كان الامتحان التحصيلي أداة قياس لتشخيص الواقع وحجم "الخراب". لكن بعض المدارس والمعلمين لم يكونوا مؤتمنين؛ سواء بتسريب الأسئلة للطلبة، أو بتقديم الإجابات لهم. وهذا تضليل متعمد، حتى لا تكتشف "العورات" والضعف في هذه المدارس ومعلميها.
لا يعقل أن تضع شرطياً حارساً على كل مغلف يتضمن أسئلة امتحانات، حتى تضمن أن لا يُسرب! فهذا إجراء "كارثي"، يعصف بمصداقية المعلمين الذين نأتمنهم على أبنائنا وإخوتنا، ونراهن أن يصنعوا غداً أفضل للأردن.
الامتحان التحصيلي سيعطي مؤشرات لواقع الطلبة التعليمي. والمطلوب من وزارة التربية أن تقدم لنا خريطة طريق بشأن كيف ستتعاطى مع مشكلات التحصيل التعليمي إن وجدت، وكيف ستطبق القانون على من سرب ومارس عمليات الغش في الامتحان التحصيلي. ونحن ننتظر إجراءات وخططا أكثر من "النواح" ورثاء الواقع التعليمي والتربوي.
نريد أن نشهد خططاً تقول لنا كيف نخرج من "عنق الزجاجة"، وكيف نمضي في استبدال المناهج التي تريد "حشو" عقول الطلبة بالحفظ ولا تنمي لديهم عقلاً نقدياً وإبداعياً. نريد أن نرى التعليم يمضي بقوة ليرفد السوق بمهارات مهنية، لا الدفع بالطلبة إلى الجامعات فقط ليشعلوا فيها فتناً ويتحول بعضهم "لمليشيات" جهوية وإقليمية وأصوات نشاز، ينتمون لأي شيء إلا أن تكون الجامعات وطلبتها منصات للتنوير!
نعم، ننتظر بفارغ الصبر إنقاذ التعليم في الأردن، فالعقول البشرية هي الثروة التي يملكها الأردن ويباهي بها العالم. والعقول يصنعها التعليم الخلاق، ويحرس ذلك معلمون لا يساومون لحظة، وفي كل الظروف، على قدسية مهنتهم ودورهم في صناعة المستقبل.