إضاءة على سردية "خارج الموعد"

اخبار البلد

 


بقلم : صابرين فرعون

يمزج الأديب جمعة الرفاعي بين السردية والحوارية في عمله الذي يؤرخ له ضمن أدب المعتقلات أو أدب السجون في فلسطين ، ويشير في عمله إلى عنصرين مهمين في السرد الأدبي بشكل مباشر وهما : الحيزان الزماني "فترة الاعتقال" ، والمكاني "مُعتقل بئر السبع المركزي" ، وهما يوضحان عمق البؤرة الفكرية التي توالد منها النسج ومحاكاته وتجسيده أدبياً ، ويعتبر هذين العنصرين ذي حدين في "خارج الموعد" لأن الزمان يعارض المكان "غصباً ورغماً" وفي ذلك نزعة للتحرر والتمرد على القيد ، فالأسير يفقد إحساسه بالزمن خارج نطاق الزنزانة الضيقة ويتآمر مع الوقت على التأمل في لحظات ما قبل الاعتقال الأخيرة وتحليل الأحداث في محاولة لتفسيرها وفي نفس الوقت تأمل ما يطرأ من عمليات نقل الأسرى كما حدث هنا من معتقل بئر السبع المركزي إلى معتقل النقب الصحراوي ، حيث تم مصادرة بعض من مخطوطة الكتاب وتأثر الكاتب بخسارة ذلك المخطوط لم يكن بالحسبان لأنه أثقل كاهليّه بعبء أكبر لاستعادة الأحداث ...

التتابع الآني "الوقتي" يُقيّد الأسلوب التعبيري المباشر للكاتب ، ويتضح ذلك من خلال المشهد الذاتي ، فهو يعبر عن شخصه في المعتقل فكراً وإحساساً من خلال التأمل بشريط ذكريات تزامن مع تلك المرحلة ولكنه لا يخوض في اطلاعنا على الجوانب الأخرى التي أثرت فيه وإنما يبقيها طي الكتمان ويتحدث بالنظرة العامة لتفصيل معين .. يتحدث عن الأختين اللتين تمثلان الجانب العاطفي من حلم بالحرية المنتظرة بالنسبة للأسير ، يتذكرهما ويذكرهما ولكن التواصل روحاني انتهى قبل أن يتوطد ويصير له كينونة أو مسمى محدد يخاطبه ويجسده لفظاً صريحاً يبثه ألمه وشكواه ..

 في نفس الوقت ، يلجأ لفكرة الرسم التجريدي الحُداثي في الكتابة الذي يؤكد في تشكيلته على أن الأسر يفرض قيده على الجسد المادي الذي بدوره يمتن أواصر الألم مع كيفية نطقه ، ويفرض سيطرته عليه ويحد من قدرته عن نطق رؤيته وعلاقته بالأسرى الآخرين أو الزنزانة بتفاصيلها المريرة أو حتى السجان نفسه وأيضاً يطرح مجموعة من التساؤلات عن دورة الحياة والتضحيات التي قدمها الثوار بدمائهم والتي يخوض البعض في مصداقيتها : هذا الأحمر هل قُدم للأرض نقياً خالصاً أم أنه مصبوغ بفعل القتل خلافاً للسلام المنشود ؟ هنا يظهر التحدي في تفكيك الأجزاء لتمكينها من التحرر ، حيث ينافس ويسابق العقل الجسد في كسر ما هو مفروض من قيد والسمو بالطموح والحلم مزاوجاً الأضداد : الوعي واللاوعي والمحسوس والمادي للسمو .. 

يعتمد الكاتب أسلوب الحوار "قلت قالت" لتوضيح ما تم اختزاله في التوصيف المباشر والإفصاح بالمسكوت عنه أو الغامض وتمثيل الشكل الوجداني والذي ساواه بقرينه العقلي "التوجه الوطني والتمرد الثقافي" وهذا تمثل برسالته لأخيه برغم كل التضاربات والسياقات النفسية التي نقلتها الرسالة وانعكست باعتذاره على طريقة تلك الكتابة لأخيه ..

عكست السردية ثقافة عالية للكاتب تمثلت بتوظيف الرموز الفلسفية مثل "زنوبيا و جالتيا الحكيم" للتعامل مع الأشخاص وحتمية أن التجربة ما تصقل الإنسان وقراراته واكتشاف الحقيقي من المزيف .. التجربة أيضاً تصقل نظرة الإنسان لروحه الجريحة ونزف قلبه ، فيلملم كل خيباته بمن اتخذوا من الأصنام صورةً ، فكان صدى صوتهم بلا أفعالٍ تُذكر وتخلد وإنما في محاولة لطمس أصالة الذين كتبوا بدمهم أفعالهم !!

سردية "خارج الموعد" عبارة عن لوحات تأملية في وجودية الإنسان وما يتركه من بصمة فعلية بعد فناء الجسد المادي .. مفاتيحها تبدأ بلون غامق كما : "حان ، الانتظار ، كانت" وهي تقترح على القارئ أن يحاور نفسه ويتشارك مع الكاتب في البحث عن إجابات كافية لإغلاق دوامة الأسئلة التي تتكاثر يوماً بعد يوم لتصنع حرباً شرسة في صراعات الأنا وهو ما يظهر في خاتمة الكتاب عندما رد الأسير على قاضي الاحتلال أنه يتحدث عن العدالة الإنسانية..

" خارج الموعد" العمل الثاني للأديب الفلسطيني جمعة الرفاعي وقد كتبه فترة اعتقاله في سجن بئر السبع ، له أيضاً مجموعة شعرية رومانسية وطنية بعنوان "سجينيوس" ...