طارق عزيز رجل دولة من طراز فريد

د.رحيل محمد غرايبة

طارق عزيز كان يمثل الوجه العراقي الطافح بالمجد، والرأس العربي المرفوع في المحافل الدولية، وكان يمثل صورة الدولة العراقية أمام العالم، عندما كانت دولة قوية ومستقرة لها مكانتها بين الدول العربية وعلى مستوى المنطقة بأسرها، ويمثل انطباع الهيبة والوقار بمظهره وجديته، ولهجته وسحنته العراقية، التي تفيض بالرجولة والثبات، وقوام الشخصية المتزنة.
قضى طارق عزيز فترة طويلة على رأس وزارة الخارجية، وكان له دور مميز في رسم معالم الدبلوماسية العراقية في ظروف صعبة وحرجة مرّ بها العراق، وأدار ملف العلاقة مع الأمم المتحدة، والولايات المتحدة الأمريكية عندما وضعت مخططاً تآمرياً يستهدف العراق وجوداً وقوةً ودولة موّحدة فور انتهاء الحرب مع ايران عبر مصيدة الكويت التي تم نصبها بعناية وذكاء، وقد تم التعبير عن ذلك على لسان وزير الخارجية الأمريكي وقتذاك (جيمس بيكر) عندما قال : « إن أمريكا ستعيد العراق إلى ما قبل العصر الصناعي، وانها ستغير القيادة العراقية وتنصب حكاماً جدداً من أتباعها»، فرد عليه طارق عزيز : نعم، تستطيع أمريكا تدمير العراق، ولكنها لن تستطيع القضاء على العراق الذي يعود تاريخه إلى سبع آلاف عام قبل الميلاد، ورفض استلام رسالة بوش إلى القيادة العراقية، لأنها لم تكن تحمل خطاباً يليق بالتواصل بين رئيسين.
ينحدر طارق عزيز من أسرة مسيحية كلدانية عريقة تقيم في قرية شمال «الموصل»، وانضم إلى صفوف حزب البعث، وأصبح رئيساً لتحرير صحيفة الحزب ثم وزيراً للإعلام، ثم وزيراً للخارجية منذ عام (1983) واستطاع أن يمثل عروبة العراق أمام العالم، وأن يكون مدافعاً عنيداً صلباً عن هويته المهددة، في ظل تآمرالعدو والصديق عبر التحالف الدولي الثلاثيني؛ الذي ضم مجموعة كبيرة من الدول العربية التي ترفع شعار القومية والرسالة العربية الخالدة، وكل ما يخطر على البال من مصطلحات ثورية وتقدميّة!
قضى طارق عزيز في سجون العراق مع بقية أركان الحكم السابق، وهم يعانون من الأمراض والتجاهل والنسيان، على يد نظام متهالك جعل من العراق دولة هشة ممزقة تأكلها الصراعات الطائفية والمذهبية والعرقية، وأصبحت مسرحاً لحرب أهلية دموية تقودها ميلشيات حاقدة وعلوج مستوردة، لم ترق إلى المستوى الآدمي في احترام الحياة الإنسانية وتقديرها.
عندما نرثي طارق عزيز، إنما نرثي الشعب العراقي، الذي أصبح شعوباً متنافرة مختلفة، ونرثي الرجولة والشهامة والنخوة العربية الأصيلة، ونرثي الحضارة العراقية الممتدة إلى أعماق الزمن، ونرثي الجيش العراقي الذي تم حله وتدميره على يد الأمريكان وعملاء الأمريكان، ونرثي صدام حسين الذي تم نحره على يد الجبناء الأنذال صبيحة يوم عيد النحر، ونرثي بغداد حاضرة العرب وموئل العلم والمعرفة، وعاصمة الرشيد وبلد أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن وأحمد بن حنبل، وأرباب العلم وسلسلة طويلة من القادة الأفذاذ والشعراء الأقحاح، ونرثي تاريخاً عربياً عريقاً ومجداً تليداً، وخطاباً لسحب السماء الممتلئة بالغيث...
موت طارق عزيز يعيد فتح الجرح العربي الدامي، ويرش الملح على كل جراحات العرب النازفة في بغداد ودمشق وطرابلس والقاهرة وصنعاء، ويعيد الطرق على مسامع الأجيال المتعبة التائهة في دروب الإحباط واليأس، لتنهض من وسط الركام والبؤس، لتعيد نسج خيوط الأمل من جديد، وقد تمردت على كل عوامل الانكسار، ووقفت أمام كل محاولات الاستلاب الحضاري، وتعزم على المضي قدماً في معركة البناء الطويلة.