الغش في الصغر كالفساد في الثمر

الغش للربح أو لتجنب الخسارة أو تداعيات سلبية ما ليس جديداً. لكنه تحوّل في السنوات الأخيرة إلى وباء كما يلاحظ الناس والنقاد الاجتماعيون والأخلاقيون. إن وسائل الإعلام والمحاكم تعج بأخبار ودعاوى الكذب، والخداع، والاحتيال... فمديرو الشركات الكبرى يسرقون أموال المساهمين وأموال التقاعد، والرياضيون يتعاطون المنشطات، والسياسيون يرتشون.
كان الغش في الماضي وبأشكاله المختلفة خفياً، ثم صار ظاهراً ومرئياً وجلياً. لكن الكارثة أن يصبح مبرراً. وبتواتر الغش في المجتمع يتبلد الإحساس نحوه إلى درجة توقعه. صار الناس يتفاجأون بالعكس، أي عندما يعثرون على نزاهة أو أمانة أو صدق في المعاملات.
لقد جعلت ثقافة الغش المتزايدة في أميركا مفكراً معروفاً مثل ديفيد كالاهان، يؤلف كتاباً بهذا العنوان: The Cheating Culture: Why More American's Doing Wrong To Get Ahead (2004).
في البلدان العربية والمسلمة والإسلامية لا يعترفون بالغش، ربما لأنه صار المعيار، فلا يحس به أحد. وقد قيل: من اتجر بالسمك أو بالبصل لا يشم رائحته.
لعل الكارثة الكبرى في الغش تسلله إلى المدرسة (والجامعة) كما تقول أستاذة التربية شارون ل. نيكولاص وديفيد سي. بيرلنر بعد فرض بوش والكونجرس الامتحانات المدرسية العامة على صفوف مختارة، وفي بعض المواد وإعطاء العلامة الناجحة في الامتحان الفردي والمدرسي الأهمية العظمى سنة بعد أخرى، ومساءلة المعلمين والمعلمات بموجب نتائجها لا بموجب تقييم تلاميذهم لهم وهو الأصدق.
لقد أدى الامتحان العام او المصيري (High Stakes Testing) إلى قيام المعلمين والمعلمات والمديرين والمديرات في المدارس والإدارات اللوائية والولائية بالغش، ليحصل تلاميذهم على المعدل المطلوب، او على تجاوزه لينجوا من المساءلة او للحصول على المكافآت. بعض هذا الغش يكتشف وكثير منه لا يكتشف. غير ان اللافت للانتباه تبرير الكثيرين منهم للغش على منوال تبرير الأطباء للغش في الدواء (Placebo)، لشفاء المريض الذي قد يشفى مؤقتاً نتيجة الإيحاء السيكولوجي.
في مسحٍ قومي أميركي، اعترف 10 % من المعلمين والمعلمات بالغش في الامتحان، من مثل تزويد التلاميذ بما يساعدهم على تحديد الجواب الصحيح، أو تنبيههم إلى الخطأ فيه.
كما اعترف 15 % منهم بتمديد وقت الامتحان في مخالفة صريحة للوقت المحدد، وأن 5 % منهم علموا الامتحان للتلاميذ في أثنائه، وأن 1,5 % منهم اعترفوا بتغيير أجوبة التلاميذ في أوراق لامتحان في أثناء تصحيحه.
وفي مدينة هيوستن نالت مدرسة ابتدائية الجائزة الكبرى على تفوق تلاميذها المذهل في الامتحان، ولقاء تلفزيونياً مع أوبرا، ليتبين فيما بعد أن التلاميذ حصلوا على تلك النتيجة بالغش، وبالتعاون مع المعلمين، بعد أن حصلوا على أدنى نتيجة في الامتحان في السنة التالية. ولأن المقام لا يتسع لإيراد أخبار الغش في كثير من المدارس الأميركية فإنني سأكتفي بعرض أشكال الغش فيها، كما لخصها الأستاذان السابقان:
أولاً: الغش قبل الامتحان من مثل استخدام أسئلة الامتحان لإعداد التلاميذ مسبقاً للإجابة عليها، أي بسرقتها أو نسخها، وتمريرها للتلاميذ قبيل الامتحان، او عمل أسئلة مطابقة لها. وعندما تفشل الجهة المسؤولة في التحقيق في الواقعة تلقى تحت السجادة.
ثانياً: الغش في أثناء الامتحان، من مثل توجيه التلاميذ علناً للجواب الصحيح، بل إنه في إحدى مدارس ماساسوستش طلب المدير من المعلم المراقب ترك الغرفة ليقوم بعدها بالطلب من التلاميذ تغيير الأجوبة الغلط إلى الأجوبة الصحيحة. ومع ان المعلمين والمعلمات والمديرين والمديرات يلتزمون عند التعيين بالتوقيع على مدونة السلوك، إلا أن نسبة مرتفعة منهم تخون الالتزام بسبب الضغط الشديد لتحقيق نسبة النجاح او للحصول على المكافأة.
ثالثاً: الغش بعد الامتحان، من مثل تغيير العلامات في أثناء نقلها من أوراق الإجابة إلى الجداول النهائية. وعندما لا تكفي علامات الأسئلة الموضوعية للنجاح في الامتحان، يتلاعب المعلمون والمعلمات المصححون بعلامات الأسئلة المقالية لتجاوزها.
أما غش التلاميذ أنفسهم في الامتحان، فلا حدود له، بدءاً من سرقة الأسئلة وانتهاء بابتكار الوسائل التقنية للنجاح فيه.
لا ينتشر الغش في المدارس المدنية الأميركية فقط، بل ينتشر في الكليات أو الأكاديميات العسكرية المشهورة: البرية والبحرية والجوية.
كما لا يقتصر الغش على إدارات المدارس والمديريات، بل يقع في الإدارة التربوية الوسطى والعليا، من مثل التلاعب إحصائياً بالعلامات ليحظى المدير العام في الولاية بالإشادة والشهرة أوالمكافأة. بالامتحانات العامة (المصيرية) التي تفرض على الأطفال التلاميذ في المدرسة، ينشأ مناخ صالح لممارسة الغش منذ الطفولة، والذي قد يلازم صاحبه مدى الحياة، فالغش في الصغر كالفساد في الثمر.