إضاءة على رواية "أنا وجدي وأفيرام"
اخبار البلد
بقلم : صابرين فرعون
كون العمل الأدبي ، خاصة النثري من رواية وقصة وسردية ، مساحة للتأمل والتعبير عن الذات والمجتمعات على اختلافها ، وبمنظور قد يأخذ منحى الانحياز وقد يأخذ منحى الحياد ، فإن الكاتب في الحالتين جزءٌ من صراع الشخصيات تحمل بعضاً من أيدلوجيته وثقافته وروحه وعاطفته ، كما أن العمل الأدبي يسلط الضوء على قضايا متشعبة إنسانياً ويفرزها حبراً على الورق ..
يطالبنا الكاتب أن نكون جزءاً من هذا النسج ، شخصاً في شخصيات متعددة الجوانب يعلو صوت تحررها من قيود مادية وأدبيات التطور البشري والنقلات النوعية والكمية في السلوكيات الإنسانية .. إن الكاتب قارئ وشخصية من شخصيات العمل تلعب دوراً مهما في تسلسل الأحداث ومصداقيتها، فهو يصغي بعمق لقصص شخوصه ، يتشوق لسماع حكاياتهم ، مثرياً نصه بما يروونه وشاهداً على التغييرات فيما يخبرونه لنا ومعايشاً لأسرارهم العميقة فيرويها لنا ..
الروائي الأردني زياد محافظة في روايته "أنا وجدي وأفيرام" يعرف من أين تؤكل الكتف ، حيث يحاكي واقعاً ملموساً في أطوار ومراحل الفطرة الإنسانية وارتباط سلوك الفرد بثغرة تكبر معه ، ويمنح هذا العمق إطاراً سردياً خصباً من خلال تجربة شخصيته الرئيسية ، فيسبر أغوار نسجه المحكم الصنع مضموناً وشكلاً بقضايا إنسانية نعايشها أفراداً وجماعات ..
يحتفظ العقل بحق رواية تفاصيلنا المخفية مهما بلغنا عتيا ، كون إزاحة هذه الأسرار الجاثمة في صدورنا خطوة منشودة كي تُنزع الخيوط التي اهترأت لكثرة ما رتقت من أوجاعنا وآلامنا فنتنفس الصعداء ، في تلك المرحلة تتواطأ الهرمونات مع الذاكرة التي امتلأت على مصراعيها بتجارب واختبارات وُضع أمامها الإنسان أدت لاتخاذ قرارات لا توافق المعايير الأخلاقية الفردية على سبيل المثال ولكن اضطر أمام ظرفه لسلوكٍ مغايرٍ ومختلف يؤدي به للندم فيما بعد ، وقد يتكرر الخضوع للظرف مما يؤدي لتراكمات مختزلة ، هذه التراكمات لها وقت من أجل أن تصير على العلن متحررة من حيز السرية أو الخجل من سلوكها لتمنح الفرد القدرة على إعادة صياغة الظرف و"اختيار" السلوك الذي لم يتخذه في شبابه على سبيل المثال ، لأن تلك المرحلة من الطيش والتهور أخذت به ليزهو بنفسه ، فلا يزيف واقع أنه صاحب قرارٍ وليس مجبراً على الإقدام على ما يندم عليه بعد سنين العمر الذي يمضي كالبرق والتعلم بالطريقة الصعبة في مدرسة الحياة ..
في هذه الرواية يقوم "وليد المرتل" وهو الشخصية الرئيسية إن صح التعبير ، بسرد قصته للكاتب ، حيث يخبرنا أنه فلسطيني الأصل من منطقة دير البساتين يخسر والده وهو طفل في حادثة حقيقية حصلت قبل أعوام ، حيث أن امرأة جار عليها الزمن وكبرت بالعمر تزوجها رجل من قرية أخرى واتخذها زوجة ثانية، وكانت تغار من معاملته لزوجته وأطفاله وقسوته عليها ، فقامت بإلقاء إحدى طفلات الزوجة الأولى لتنتقم من زوجها وهي في حالة هستيرية مضطربة، ولكن شاقت عليها نفسها في لحظات سماعها صراخ وبكاء الطفلة وإذا برجل - وفي الرواية هنا سُمي شهاب والد وليد المرتل - وحين عودته من العمل سمع صراخ المرأة واستغاثتها لإنقاذ الطفلة، فنزل للبئر وسحب الطفلة وناولها للمرأة ..
وقد خشيت المرأة أن يُفتضح أمرها ومكيدتها فإذا بها تحمل الطفلة وتهرب تاركة صانع المعروف في غير أهله بلا حول ولا قوة في البئر ، إلى أن اكتشف أهل القرية جثته بعد تحلق الدبابير حوله في البئر ، أما المرأة فأكلها الندم ولاحقها طيف الرجل سنوات طوال إلى أن قررت أن تمنح روحها البراء بطلب مسامحة أهل الرجل والاعتراف بما حصل ..
كبُر وليد وهو القروي الذي تربى على حب الأرض وسٌدت في وجهه طرق العمل فاضطر لطلبٍ طائش من جده بالذهاب لرجل يسمى صبري الغريب لكي يؤمن له تصريحاً للعمل داخل "إسرائيل" ، تتوالى الأحداث إلى أن يعمل وليد في بيت للمسنين "الإسرائيليين" للاعتناء بهم ..
في هذا المكان بدأ نضج وليد وتفتح ذهنه وحواسه وهو في العشرينات من عمره ليجد نفسه يكابد صراعاً كله تساؤلات عن عنصرية مواقف نزلاء بيت المسنين إزاء العرب ، تتوالى الأحداث والضغوطات من سجن وتعذيب وتنقل وليد بين مجموعة من الأقطار العربية للبحث عن الاستقرار ومحاولة نسيان الماضي برمته بما فيه جده الذي أصّل فيه حب الأرض وزرع بذرة العودة للوطن الذي يفتح ذراعيه له كل الوقت ، باءت محاولات وليد بالتناسي بالفشل ، وفي النهاية تمرد على كل ما حققه في غربته من نجاحات عملية وعلمية وعاد لفلسطين كي ينهي السرد حاسماً أمره برسالة لصديقه الكاتب يشكره على تحمل نزقه ومزاجيته ، آملاً أن يراه في فلسطين ليحضر له إحدى وصفات جده لمعالجة آلام المعدة ...
يسلط الروائي محافظة الضوء على عدة قضايا بطريقة تسمح للقارئ المشاركة في صنع حوار داخل الرواية نفسها ، فمثلاً عبارة "شاحاك" أحد نزلاء بيت المسنين عندما قال أن الآباء الأوائل أقسموا أنهم رأوا ابتسامة على جبين الرب حين قامت الدولة!!
كذلك علاقة المجندات في جيش الاحتلال برؤساء فيالقهم "الجيش" التي توحي بالصورة البشعة بعد كل ما يقدمونه من تضحيات ، كما حين قامت خيمدا مديرة دار المسنين بإهانة أفيرام أحد نزلاء دار المسنين عندما صرخ بوجهها .. وأيضاً علاقة العربي بأرضه علاقة أصيلة متينة بحيث مصيره العودة لها ، وهذا إشارة لحق العودة الفلسطيني ...
كذلك تبرز ثقافة الروائي من خلال اضطلاعه على الأدب العبري وقراءاته لسياسيين كـبسمارك وفنانين مثل أوغست رينوار ، بالإضافة لذائقته الموسيقية كـفيروز ومزاوجتها مع الثقافة المكانية والإلمام بأسماء الأماكن والشوارع والأشخاص وعاداتهم في حب الموسيقى العربية الأصيلة مثل عبد الوهاب ، كما اتضح اهتمامه بعلم النباتات ووظيفتها العلاجية وخلطات الأعشاب التي منح سرد تفاصيلها رسماً حيّاً للمشاهد تفوح بروائح النباتات العطرية والأعشاب والوصفات وألوانها ، مما حول الحرف والكلمة لبناءٍ يملك بعداً ثلاثياً للعين القارئة والعقل الذي يسترجع روائح وشكل ولون وجمال الطبيعة التي يستعين بها الفلاح للتداوي والعلاج ..
وقفت كثيراً عند العنوان وفي كل مرة كان السؤال عن حيثية معينة وهي .. "أنا" وهو وليد المرتل ، "جدي" وهو بهجت المرتل ، و"أفيرام" إحدى الشخصيات التي تم الحديث عنها كما باقي شخصيات نزلاء بيت المسنين ، فلماذا أفيرام ؟
وكان الجواب يأتي من داخل الكتاب ، أن عليك أيها القارئ التهام الرواية حتى آخر حرف فيها وعلى نفس واحد لتجد الجواب ، أفيرام كان أكثر الشخصيات عدائية وسبب ذلك مشاركته في القتل وسفك الدم في لبنان ، كما أنه كما تشير الرواية كهل ضحى بقدميه في الخدمة العسكرية ولاءً لقيادته ولم يتوانَ حتى وهو مقعد عن التخطيط وتقديم تضحيات كإنهاء خدمة وليد في بيت المسنين لحقده الدفين وكرهه للعرب فكان أكثر الشخصيات التي أثرت في وليد واحتدام موقفه وقراره في العودة للوطن الذي يحتاج لتضحياته على الرغم من عمره الذي قد جاوز الستين ربما ، حيث ذكر الكاتب في بداية الرواية وفي نهاية الرواية أيضاً في رسالة وليد له أن هذه الأحداث قد تمت في الثمانينات ...
في هذا العمل قام محافظة بإرساء شكلٍ للرواية النفسية ، عن صراعات النفس للوصول للروحانية والتجلي بصفاء الذهن والتفكر والتروي في صنع أي قرار يكون ، وعليه فإن هذه الرواية يجب أن يتم تبنيها أنموذجاً للدراسة الأكاديمية في الرواية ..
زياد محافظة روائي أردني يحمل درجة الماجستير في الإدارة العامة ، عضو في رابطة الكتاب الأردنيين وعضو في اتحاد كتاب وأدباء الإمارات ، صدر له عن دار فضاءات للنشر والتوزيع : "أبي لا يجيد حراسة القصور" مجموعة قصصية ، "نزلاء العتمة" رواية ، " أنا وجدي وأفيرام " ...