مركزية التوجيه والإشراف عـلــى الخـطــاب الـدينـي


من الأمور المتفق عليها أو ما يجب الاتفاق عليها، ان الدين يهدف إلى توحيد الأمة، ولم شتاتها وزيادة أواصر التقارب بين البشر، وعمد إلى حفظ أواصر القربى والنسب والمصاهرة، وحفظ المصالح العامة للتجمع البشري بطريقة عادلة، من خلال إرساء منظومة قيم الكرامة الآدمية والحرية الإنسانية، وإعلاء شأن العدالة، ومحاربة التعصب بكل أنواعه وأشكاله ومسمياته.
لكن ما نلحظه أن كثيراً من الناس أصبحوا يستخدمون الدين وسيلة لفرقة الأمة وإثارة النزاع والشقاق بين صفوفها، ويعمدون إلى إذكاء نيران التعصب الديني والمذهبي الذي يصل إلى مستوى الاقتتال والتصفية الجسدية، والاغتيال الاجتماعي وإثارة الكراهية بين مكونات المجتمع، ويزداد الأمر بشاعة رغم ارتفاع مستوى التعليم والتقدم المادي للشعوب والأمم، والمفارقة أن الشعوب والأمم الأخرى أصبحت أكثر قدرة على التفاهم والتعايش المشترك فيما بين أفرادها ومكوناتها رغم التباين الهائل في الأديان والأفكار والأعراق.
المشكلة ليست في الدين، وليست في منظومته القيميّة السامية، بدليل أنه أسهم في توحيد الأمة وإعادة بنائها، وجعلها تحمل أعظم رسالة حضارية إلى أمم العالم وشعوبه، إذن المشكلة تكمن في أتباع الديانات انفسهم وفي طريقة الفهم والحمل والتبشير بها بما يناقض الغايات والأهداف الأصيلة، وبسبب الجهل المستحكم في عقول من جعلوا أنفسهم أوصياء على الدين ومبادئه وقواعده وأصوله وفروعه، فأصبحوا يحكمون على غالبية المسلمين بالردّة التي تبيح الدماء والأرواح، بدلاً من أن يكونوا سبباً في نشر الإسلام ودخول الناس فيه أفواجاً، فأصبحوا سبباً في خروج الناس من الدين بدلاً من جذب الناس اليه وإدخال الناس فيه.
هذا يستوجب على العلماء والحكماء وأهل الرأي التفكير وأصحاب المسؤولية في كيفية توحيد التوجيه والإشراف المركزي على الخطاب الديني بطريقة مدروسة، تتبنى منهج التفكير السليم، الذي يهدف إلى توحيد الأمة على الجوامع، وإعلاء شأن المبادىء والقواعد العامة، وصيانة منظومة القيم الثابتة التي تصلح لتفسير الفروع والتفصيلات والاجتهادات والاختلافات الواسعة والمتعددة التي ينبغي أن تكون متاحة ومسموحة ومقبولة، دون تعصب أو توتر، وبعيداً عن منطق التكفير والتخوين والإخراج من الملة.
ما زال الخطاب الديني مستباحاً لكل من هب ودب، وهناك من يقدم نفسه للحديث والوعظ والزجر وإصدار الأحكام وهو لا يملك أي مستوى من مستويات التأهيل الديني والشرعي الذي يجعله ينبري للحديث باسم الدين، ويشرق ويغرب ويمارس التهديد والوعيد بلا حسيب ولا رقيب، مما أدى إلى خلق هذه الفوضى العارمة التي تملأ ساحاتنا ومدارسنا وجامعاتنا ومساجدنا، وأسهمت في انتاج جيل يعاني من التيه والضياع.
نحن بحاجة ماسة تصل إلى حد الضرورة التداعي من أجل مناقشة هذه الحالة، ومناقشة اقتراح إيجاد مؤسسة مركزية واحدة عليا، تمارس التوجيه والإشراف على الخطاب الديني في المناهج والمدارس، والجامعات وكليات الشريعة، وفي سلك القضاء، والأوقاف التي تشرف على الخطاب المسجدي والوعظ والدروس في كل مساجد المملكة، وفي كل الأماكن والساحات الوطنية على صعيد الكبار والصغار، والرجال والنساء، الشباب والكهول، ويجب السعي لصناعة موقف مجتمعي متوحد، يحول دون تصدر الجهلة والمتعصبين لمنابر التوجيه.
كل المؤسسات التي تعمل في الحقل الديني؛ الأوقاف، القضاء الشرعي، مؤسسة الافتاء، الجمعيات والمؤسسات الدينية، التي تعنى بالقرآن والحديث والسنة، وكل مجالات الوعي والتثقيف، لا بد لها من التفكير في إيجاد إطار جامع علوي يمثلها جميعاً، يضع الخطوط العريضة التي تحفظ مقاصد الدين، وأصول الشريعة وقواعد الفقه من العبث وتتيح الحرية للاجتهاد المنضبط القائم على العلم والفقه الحسن، ويمنع الشطط ويقاوم التطرف من خلال رفع مستوى التفكير العلمي واحترام العقل، بعيداً عن النزق والعنف والتوتر الممزوج بضحالة التدين وسطحية التفكير.