التنقل

كان والدي –رحمه الله- يعمل في جهاز الأمن العام وفي قسم السجون خاصة. فقد عمل نائبا لمدير السجن المركزي في عمان، ومديرا لسجن إربد ومديرا لسجن السلط ومديرا لسجن مأدبا ولم يذهب للجنوب ولكنه خدم في بداية حياته العسكرية في معان وكنا بحكم ذلك نرحل معه من بلد إلى بلد وأتذكر أنه عند كل رحيل كان أبي يحضر سيارتين إحداهما صغيرة تركبها العائلة والثانية «ترك» نضع فيها العفش وأغراض العائلة وأركب أنا بصفتي الكبير مع العفش في «الترك».. وتسير السيارتان خلف بعض من عمان إلى إربد أو من إربد إلى السلط أو من عمان إلى جرش وهكذا.
وبحكم ذلك فإنني وأخواني كنا ننتقل من المدارس في البلاد التي ينتقل إليها والدي حتى أصبح لي معارف وأصدقاء في تلك البلاد وكانت السلط أكثر المدن التي استطعت الحصول فيها على أصدقاء حقيقيين استمرت صداقتنا مع بعض طول العمر.
وكان أعز أصدقائي في السلط المرحوم المهندس الزراعي عبد الرزاق عبد القادر الحياري وكنا أنا وإياه ندرس في بيتهم في سقيفة داخلية نصعد إليها بالسلم وندرس ساعات ويرسل لنا الأكل هناك.. بل وفي بعض الاحيان كنت أنام أنا وعبد الرزاق في السقيفة لليوم الثاني ونذهب للمدرسة ونعود منها إلى بيتنا.. حيث نتغدى ونبقى هناك ويبقى عبد الرزاق عندي وينام في غرفة الأولاد التي أنا فيها مع أشقائي الذكور.
فقد كانت علاقتنا أشبه ما تكون بعلاقة الأخوة حتى أن بعض الطلاب صاروا ينادونني الدحلة الحياري.
وأذكر أنه عندما ذهبنا لطلب عروس لخالد ابن عبد الرزاق وكان رئيس الجاهة المرحوم الفريق علي الحياري وقد تم وضع فنجان القهوة أمامه باعتباره –شيخ الحيارات– ورئيس الجاهة فإنه قام بأخذ الفنجان من أمامه ووضعه أمامي وقال أنت أقرب الناس وأخلص الاصدقاء لوالد العريس وانت أولى بالطلب، ولما رفضت وقلت له أنت رئيس الجاهة وشيخ الحيارات وهي اقوى من الصداقة قال بالعكس الصداقة اولى من القرابة لان هناك اقارب لا يتكلمون مع بعض أما الاصدقاء فهم الذين يخلصون لبعضهم، وأصر على وضع الفنجان أمامي وقيامي بطلب العروس وهكذا كان.
وكان التنقل بين المدن أيضا مدعاة لتنوع ولادة اخواني.. فاثنان من إخواني ولدا في عمان واثنتان من الفتيات ولدتا في السلط واثنتان ولدتا في إربد وواحدة ولدت في عمان.
وكان هذا التنقل سببا في تأخر درجتي في بعض الأحيان وخاصة عندما أنقل في منتصف العام الدراسي حيث تختلف علي وجوه الاساتذة والطلاب وطريقة التدريس والظروف الاجتماعية المواتية أو غير ذلك في تلك المدارس.
ورغم أنني من خلال هذا التنقل استطعت العيش والتعرف على معظم مدن بلادي ولي أصداقاء ومعارف في كل منها إلا أنني في الواقع واجهت مصاعب ونتائج أثرت على مستوى الدرجة التي كنت أحصل عليها في نهاية العام بسبب التنقل.
وكان والدي –رحمه الله– حريصا على تعليمي حتى الجامعة لأنه كان في عمله يرى القاضي والمدعي العام في مكانة محترمة في المجتمع والجميع ينظر اليهم بهيبة ووقار وكان يريد أن أصبح قاضيا أو مدعيا عاما، وقد حققت له رغبته فعينت مدعيا عاما في الكرك وقاضي صلح في مأدبا وقاضيا عسكريا في المحكمة العسكرية.
وكان الناس يأتونه قليلا ويرجونه التدخل لدي من أجل التخفيف أو تبرئة أولادهم الذين يحاكمون أمامي فكنت أقول له بلطف تكرم يا والدي –بصير خير– ولكنني كنت أصدر الحكم المفروض قانونا مع التخفيف أحيانا إذا كان ذلك ممكنا.
ولكن بقائي في الخدمة العسكرية لم يطل كثيرا فإن الضباط في تلك الأيام كانوا ينضمون لتنظيم الضباط الأحرار المناهض للوجود الانجليزي والتوجه الغربي للحكومة.
ولذلك جرى اعتقال المئات من الضباط من رتبة فريق أو لواء حتى رتبة ملازم.. وكنت أحد المعتقلين وأمضيت في الاعتقال مدة سنة كاملة وأفرج عني مع آخرين بعد تحسن الاحوال الأمنية واستطاعة النظام السيطرة على الأمور.