وأخيراً.. في برلين !

ربما يبدو غريبا أني طوال عمري لم أقم بزيارة لبرلين إلا في الاسبوع الماضي وانا الذي زرت معظم عواصم ومدن العالم الهمة مع أن برلين كادت لفرط اهميتها ذات يوم أن تصبح عاصمة الدنيا كلها لولا هزيمة النازية عام 1945 !

وكما أن لكل مسافر انطباعاته الأولية عن الاماكن التي يغشاها، سطحيةً عابرةً كانت أم وازنة عميقة الدلالة فانها بمجملها تستحق عناء التمعن، لعل فيها ما ينفع أو ما يمتع ! ولقد كان أول انطباعاتي وانا القادم من عمان حيث تتفاقم مشكلة الازدحام المروري يوما بعد آخر أنْ وجدت برلين مدينة هادئة بلا ضجيج ولا تحتقن شوارعها باعداد كبيرة من المركبات رغم انها عاصمة الدولة الصناعية الكبرى التي تنتج منها الملايين وتبيعها لكل دول العالم، والسبب ببساطة هو توفرُّ نقلٍ عام منظم فوق الارض وتحت الارض يحمل مئات الآلاف من الناس الى اماكن عملهم او شؤونهم
الأخرى ، ومنهم بالطبع من يملكون السيارات الخاصة بعكس ما يفعل مواطنونا مضطرين ! ولم أجد غرابةً في عاصمة اوروبية مثل برلين أن تكون الشوارع عريضة تستوعب مرور السيارات والباصات والقطارات الكهربائية والدراجات الهوائية كل في مسربه وان تكون أرصفتها معدة اعداداً جيداً للمشاة فهم الاجدر بالاهتمام والاحترام، بالمقارنة مع ارصفتنا التي يرثى لها ولا تفكر الامانة في اصلاحها لان الاولوية للسيارات حتى أنها اجازت لها احيانا التمطي فوقها !
والانطباع الثاني عن الحدائق الغناء الواسعة المنتشرة بين الاحياء كمتنفس حقيقي للعائلات، لكبار السن والامهات والاطفال والعشاق وهواة رياضة المشي والهرولة والجري، لكن في حلوقنا غصة اذ يتجاهل مسؤولونا حاجتنا لمثل هذه الرئات الطبيعية الضرورية وبدلا من استغلال أراضي الدولة بالتخضير والتشجير فانهم لا يتورعون عن الاعتداء عليها بالاسمنت والحجر..
وعن استمتاعنا بالموسيقى، هذا الفن المدهش في حياة كل الشعوب الذي يحظى في المانيا كما في باقي الدول المتقدمة بمنزلة رفيعة وتقدير عالٍ، كانت لنا سهرة رائعة قضيناها مع فرقة برلين السمفونية في دارها التي لم ار مثلها من قبل فقد بنيت على نمط هندسي غير تقليدي ذي سبعة اضلاع حتى تستوعب ما يربو على الف وخمسمائة من الحضور يتسنىّ لكل واحد منهم ان يجلس في مقعد يوصف بحق أنه الأفضل
سواء كان في اعلى الصفوف او أخفضها فكلها تطل على مسرح مستدير في قاع البناء من مدرجات سبعة تتقابل مع بعضها بزوايا مختلفة حتى ان جميع الجالسين يستطيعون ان يروا العازفين جيداً ويصلهم الصوت بالتساوي أينما كان موقعهم بفضل الاستخدام المتقن لعلم الصوتيات..
والنحت فن آخر جميل يتباهى به البرلينيون وينثرون ابداعاته في كل مكان، فالتماثيل جزء من تاريخهم ولقد مررنا على تمثال كبير لكارل ماركس جالساً وبجانبه يقف رفيقه فريدريك انجيلز وسط حديقة عامةً، ثم اردنا ان نتوجه الى تماثيل حديثة لكلٍ من أسانج وسنودن وماننغ نصبت مؤخراً أمام المقر الرئيسي لحزب الخضر لكنها لسوء حظنا كانت قد نقلت الى مدينة أخرى، فالبرنامج التوعوي حول شجاعة فرسان العصر هؤلاء يقضي بأن يعم الاحتفاء بهم كل انحاء المانيا على ما قدموه للبشرية من خدمة كبرى حين اخترقوا حواجز الاسرار السياسية الكبرى ودفعوا الثمن سجناً وتشريداً ومطاردة !
وانطباع سياسي عن البوندستاغ (البرلمان الالماني) الذي شهدت بواباته واسواره آخر معركة فاصلة في الحرب العالمية الثانية وكان جنود الجيش السوفيتي اول من تمكن من الوصول اليه وأول من رفع علم النصر فوق قوسه التاريخي.. أما الآن فالبرلمان (المحدَّث) بعد أن تم ترميمه واعادة بنائه بطريقة بارعة تعلوه قبة زجاجية ضخمة ( بدل المعدنية التي دمُرت اثناء القتال ) تخدم اغراضاً عدة، فعلى سطحها الداخلي ممر لولبي صاعد الى القمة وهابط الى الارض يسير فيه آلاف من الزوار يوميا دون أن يؤثر ذلك على مجرى جلسات البرلمان كما تظل الرؤية واضحة بين الجانبين كرمز
للشفافية الديمقراطية.. وهناك مخروط زجاجي ضخم يتدلى من سقف القبة الى أرض القاعة وعلى جوانبه آلاف المرايا العاكسة من مختلف الاحجام تحّول ما يسقط عليها من ضوء النهار الى طاقة تزود مباني البرلمان بالكهرباء اللازمة لاغراضه..
وبعد.. لم أنس جدار برلين الذي سموه جدار العار إذ فصل بين شرقيها وغربيها حين كانت المانيا دولتين، فمازالت قصة هدمه تذكّر العالم بوجود جدار آخر أشد سوءًا وأبشع مقصداً أقامته اسرائيل في ارض فلسطين، ولذلك حديث آخر..